ماذا بعد؟! لأن دولة الاحتلال بنت وجودها على نظرية أرض بلا شعب "فلسطين"، مارست على مدار عقود تفريغ المقاومة وعزل الساحات وتخدير المواقف وإماتة القرارات الدولية وإبقاء الصورة النمطية أن فلسطين لا يوجد من يحكمها وحتى أحزابها متصارعة، وهذا ما تعكسه في خريطتها التي تكتب عليها قنوات التطبيع الموجهة "إسرائيل"، وتظهر الضفة وغزة أنها أرض بلا هوية وشعب، ليبقى فقط المخول للسيطرة عليها تلك الدولة المتحضرة "إسرائيل".
وعندما نهضت المقاومة من جديد وتعزز الإجماع الدولي الشعبي المناصر لها كانت الصدمة التي يحاولون الخروج منها بتصعيد يتلوه تصعيد لأن التوقف يعني دفع الثمن المؤجل لعقود، لا يلوح في الأفق أي هدوء، بل سيكون التصعيد أكثر وأشمل وأعنف وفي مواقع جغرافية جديدة داخل وخارج فلسطين لعدة اعتبارات:
- لم ينتصر الاحتلال في غزة ولا حتى في آخر عملياتها "المخيمات الصيفية" في الضفة الغربية، وهذا يعني أن إخفاقا أمنياً يتراكم وصولا إلى الهزة المعنوية في عملية معبر الكرامة، وبالتالي أي تراجع في المخططات الدموية يعتبر هزيمة استراتيجية سيبنى عليها مستقبل وجود.
- هناك إجماع داخل كيان الاحتلال على تعزيز الردع وضرب الجوار وقلع الفلسطيني، هذا ليس حكرا على نتنياهو كما تحاول قنوات التطبيع العربي رسم المشهد وغسل الدماغ، بل هو عقيدة قتالية في الجيش، وليس غريبا أن من أسماه العربان حمامة السلام "شمعون بيريس" كان مهندس مجزرة قانا.
- يمتلك الاحتلال أوراق قوة ثلاثة بعد فقدانها الورقة الأهم وهي الردع وصفة الدولة والاستقرار، فطوفان الأقصى جردها من ورقة الردع والهيبة، والآن يصارعها في أوراق قوتها الثلاثة المتبقية وهي:
- المحاكم الدولية التي يسعى الاحتلال بكل جهد للتضييق على سالكي طريقها وترهيبهم لإفشال خطواتهم، وهنا تستخدم مخزونها التاريخي من مصالح الدول الذي سينفذ نظرا لعدم توقف الحرب وكثرة المجازر.
- ورقة ثانية هي الفيتو الأمريكي الذي كانت تتربع على عرشه عقودا طويلة بسبب عدم وجود تضارب مصالح منذ زمن بين أعضاء المؤسسة الدولية، ولكن مؤخرا مع صعود تنافسية الأقطاب وصراع أوكرانيا وتحضيرات تايوان وما يجري في إفريقيا بات الفيتو يتعرض لهزات أخلاقية تبعتها قانونية تلتها أمنية وعسكرية، وهذه تحولات ستنتج واقعا مغايرا ليس لأن أمريكا باتت أخلاقية وعادلة بل لأن منظومات وأجواء تغيرت تخلق واقعا سيكون الفيتو فيه حبرا على ورق، وهنا تخسر "إسرائيل" استراتيجية كنز كان عماد صمودها.
- ورقة ثالثة هي الأنظمة العربية المهندَسة على نغمة أمن الاحتلال والتي تعتبر في الدراسات الاستراتيجية للأمن القومي الأمريكي ورقة مهمة ليس فقط للاحتلال بل لضمان سيطرة أمريكا ومنع التسلل الدولي للمنطقة وإحداث معادلة التعددية، وهذه الورقة أبرز مقومات بقائها هو هدوء القضية الفلسطينية وتخديرها، وكذلك تفعيل نظرية التمدد الإيراني و"فرّق تسد" والفتنة، وكل هذا في إطار الفوضى الخلاقة.
ولكن الأمريكي يدرك أن هذه الورقة تهتز مؤخرا بشكل تصاعدي بدءا من الثورات التي اندلعت وما زالت آثار وجعها حاضرة في العقل الجمعي للشعوب، وصولا إلى مجازر الاحتلال وليس انتهاءً بتواطؤ الأنظمة وقمع شعوبها وعدم تحركها لوقف الإبادة، وهذه كلها عناصر إشعال للشعوب ستكون فيها الورقة الرابحة على مدار عقود "الأنظمة العربية" منتهية الصلاحية، ما يعني أن "إسرائيل" تخسر كل يوم من مخزون وجودها الاستراتيجي بدل أن تربح وتروض وتطبّع وتعزز نفوذها.
في الخلاصة… طول أمد الحرب وصمود المقاومة، وعدم الوقوع في فخ المفاوضات التخديرية وعدم فصل الساحات بل توسعها وتمددها شعبيا وعسكريا وإعلاميا يعتبر هزيمة ثانية لمشروع "إسرائيل" الذي سخر دولا عربية في إطار التحالف الإبراهيمي، كلها أسباب تجعل المنطقة ذاهبة لتصعيد أكبر ما يفتح ملفات قديمة جدا وترتيب جديد لم يكن في حسبان من واجه الطوفان بسيوف حديدية.
ما زالت الساعة بتوقيت المقاومة، بل تنضم كل يوم جغرافيا جديدة لضبط التوقيت ذاته.