بعد استخدام المندوب الأميركي في مجلس الأمن حق الفيتو اعتراضًا على مشروع القرار الجزائري المدعوم من المجموعة العربية، والقاضي بتحويل مكانة دولة فلسطين من عضو مراقب إلى دولة كاملة العضوية، شن الرئيس محمود عباس هجومًا غير مسبوق على الإدارة الأميركية؛ إذ عدّ الفيتو بأنّه "يشكل عدوانًا سافرًا على حقوق شعبنا، وتحديًا لإرادة المجتمع الدولي". وهذا صحيح، ويجب أن يوضع في سياق رؤية الشراكة الكاملة الأميركية الإسرائيلية في حرب الإبادة التي تشن منذ سبعة أشهر ضد الشعب الفلسطيني، فهي التي تشكل أساس العدوان السافر المستمر.
وقال الرئيس إن "الولايات المتحدة خرقت جميع القوانين الدولية، وأخلت بكل الوعود بخصوص حل الدولتين وتحقيق السلام في المنطقة"، وهذا ليس بجديد، فإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن كانت تدعي منذ توليه سدة الحكم أنها تريد تحقيق ما يسمى حل الدولتين ولكن ليس الآن، ولم تفعل أي شيء لتحقيقه، بل فعلت كل ما يمنع تحقيقه، وهذا يجعل حديثها عن حل الدولتين مجرد تضليل لا أكثر، ومرهونًا بموافقة إسرائيل التي ترى أغلبية ساحقة فيها أن قيام دولة فلسطينية تهديد وجودي لإسرائيل.
وأشار الرئيس إلى أننا: "سنضع إستراتيجية جديدة لحماية القرار الوطني المستقل، والسير وفق أجندة فلسطينية وليس وفق رؤية أميركية أو أجندات إقليمية". وهذا أمر جيد جدًا إذا تحقق، ولكنه يعني إقرارًا ضمنيًا بعدم وجود إستراتيجية مناسبة، وأن القائم حتى الآن لا يتفق مع الأجندة الفلسطينية، بل مع الرؤية الأميركية والأجندة الإقليمية؟
وتابع بالقول: "لن نبقى رهائن لهذه السياسات التي ثبت فشلها وانكشفت للعالم أجمع، وسنعيد النظر في العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة بما يضمن حماية مصالح شعبنا وقضيتنا وحقوقنا"، فهل هذا يعني وقف الحوار واللقاءات معها لأن العلاقات الدبلوماسية مقطوعة أصلا فعليًا بعد إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، الذي أغلقته إدارة ترامب ولم تف إدارة بايدن بإعادة فتحه؟
وأضاف: أن "الإدارة الأميركية لم تتراجع فقط عن وعودها والتزاماتها، بل سمحت لإسرائيل بإضعاف السلطة الوطنية الفلسطينية"، وهذا صحيح، فهي لم تستأنف حتى الدعم المالي للسلطة بحجة القوانين الأميركية التي تحول دون ذلك، ولم تمنع حكومة الاحتلال من القرصنة على أموال الجمارك الفلسطينية؛ حيث تخصم منها الأموال المخصصة لرواتب الأسرى وعائلات الشهداء والمخصصة لقطاع غزة؛ لأن السلطة لم تلتزم بعدم تحويلها إلى قطاع غزة.
الرئيس عباس وضع كل البيض الفلسطيني في السلة الأميركية
لم يأخذ أحد تصريحات الرئيس عباس على محمل الجد؛ لأنه وضع منذ زمن بعيد كل البيض الفلسطيني في السلة الأميركية، ولم يغير رهانه على واشنطن كونه يعتقد أنها الوحيدة القادرة على ممارسة التأثير في دولة الاحتلال، وهذا صحيح، ولكنها لا تريد ممارسة تأثيرها؛ لأنه ليس من مصلحتها أن تفعل ذلك، ويستمر الرهان الخاسر على الرغم من الخذلان المستمر، بدءًا من عدم إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، مرورًا بعدم إعادة فتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وانتهاء بالشراكة في حرب الإبادة وباستخدام الفيتو الأخير الذي حال دون الاعتراف الأممي بالدولة الفلسطينية.
ولم تأخذ تصريحات الرئيس الاهتمام لأسباب عدة، أولها لأنها مكررة، فقد صدر مثلها مرارًا وتكرارًا، ولم تؤد إلى أي شيء جديد مختلف، كما أنها لم تترافق مع موقف مماثل من دولة الاحتلال التي من المفترض أن تمثل التناقض الرئيسي والتغيير في الموقف، ويجب أن يبدأ منها، والتي لا تزال القيادة الفلسطينية ملتزمة معها بالالتزامات السياسية والاقتصادية والأمنية المترتبة على اتفاق أوسلو، على الرغم من عدم التزام الحكومات الإسرائيلية بها، لدرجة أن الحكومة الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو تتفاخر بأنها ضد أوسلو، ومنعت وستمنع قيام دولة فلسطينية.
كان يمكن أن تقوم القيادة الرسمية على الأقل بسحب الاعتراف بإسرائيل ردًا على حرب الإبادة، وكان بمقدورها ولا يزال أن تطالب بتجميد عضوية إسرائيل في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والعمل على عزلها وفرض العقوبات عليها، ولكنها لا تفعل أيًا من ذلك؛ لأنها تخشى المواجهة مع الاحتلال مع أنها مفروضة عليها، وهي الطريق الوحيد للتخلص منه.
الرئيس عباس: لا نستطيع فتح جبهتين معًا!
الشيء بالشيء يذكر، فقد سُئِل الرئيس عباس في أحد الاجتماعات للقيادة الفلسطينية عُقِدَ إبان رئاسة دونالد ترامب: لماذا لا ندخل في مواجهة مع الاحتلال وليس مع الولايات المتحدة فقط؟ فأجاب بأننا لا نستطيع فتح جبهتين في وقت واحد!، وإذا كان الأمر كذلك فإن الأولوية يجب أن تكون لفتح الجبهة مع الاحتلال، فهو المستعمر والاستيطاني والعنصري الذي يمارس كل أنواع العدوان والإجرام ضد شعبنا، وأميركا شريكة له وتدعمه. لذا، فإن الفصل بين إسرائيل والولايات المتحدة بحكم العلاقة العضوية بينهما غير ممكن، وإذا كان لا بد من الاختيار فالأولوية هي للمجابهة المفروضة مع الاحتلال.
كما لم تأخذ تصريحات الرئيس الصدى لأنه لم ينبس ببنت شفة عن الوحدة الوطنية التي يجب إعطاءها الأولوية؛ لأنها وحدها تعطي معنى وجدية لحديثه عن إستراتيجية جديدة وإعادة النظر في العلاقات الثنائية مع أميركا.
ويقلل من أهمية حديث الرئيس كونه جاء في مقابلة مع وكالة الأنباء الرسمية "وفا" ولم يخرج من اجتماع فلسطيني على مستوى فتح أو السلطة أو المنظمة، أو حتى على مستوى اللجنة التنفيذية للمنظمة التي تحولت من أعلى مستوى قيادي إلى مؤسسة استشارية فاقدة المعنى، ولا تفعل شيئًا في الظروف القاهرة التي يعيشها الشعب الفلسطيني.
عتب على "قد المحبة"!
على أساس ما سبق، يمكن وصف غضب الرئيس بأنه مجرد ردة فعل وتعبير عن الغضب والعتب "على قد المحبة"، وليس أكثر من محاولة لتنفيذ الغضب الشعبي على القيادة والرئيس في ظل انخفاض شعبية الرئيس إلى الحضيض، أو محاولة لـ "فش خلق" لا أكثر ولا أقل، وفي أحسن الأحوال محاولة للحصول على ترضية من إدارة بايدن.
حكومة مكتب الرئيس
ما دام الحديث عن الترضية، نضع التعيينات الأخيرة التي تدل دلالة قاطعة على عدم وجود نية للتغيير، فهي تقدم ترضيات وتعيد تدوير الشخصيات المقربة تقديرًا "لنجاحاتها الباهرة" السابقة، بما يشي بأن هناك حكومة فعلية يتم تشكيلها مرتبطة بمكتب الرئيس تتولى الملفات الرئيسية من سياسة ومفاوضات ومصالحة وقضاء وعلاقات خارجية وأمن ومال وإعلام، بينما ينحصر دور حكومة التكنوقراط المشكلة حديثًا، والفاقدة للشرعية البرلمانية والشعبية والفصائلية والسياسية، في المهمات الإدارية والخدمية.
وهذا يدل على أن لا جدية بإجراء تغيير حقيقي ولا حتى مجرد إصلاح ملموس، وإنما إصرار على بقاء القديم على قدمه؛ ما يعكس استمرار السياسات والأداء الذي أوصلنا إلى الكارثة التي نعيش فيها.
وفي هذا السياق، أفاد مصدر بأن هناك 400 مهمة ووظيفة قيادية في السلطة يحتكرها 60 شخصًا لا أكثر من أهل الولاء والثقة، يتم تدويرهم عليها، ويتولى كل واحد منهم مهمات رئيسية عدة، وكأنه "مقطوع وصفهم" كما يقال "بالبلدي"، مع أن قيادتهم السابقة واللاحقة لم تؤد إلى أي تقدم إلى الأمام، بل إلى تدهور مستمر.
لو أراد الرئيس حقًا الرد على الفيتو الأميركي الذي يعدّ بمنزلة إعلان حرب على الفلسطينيين، وعلى حرب الإبادة التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية من مختلف أبعادها؛ لتبنّى مقاربة جديدة كليًا، أو لأعلن على الأقل الشروع في تطبيق القرارات المتخذة في المجلسين المركزي والوطني منذ العام 2015 وحتى الآن، وأعلن أن لا عودة للمفاوضات العبثية بأي حال من الأحوال، وأن دولة فلسطين حق فلسطيني لا يتحقق بالمفاوضات، وإنما يجسد أساسًا على الأرض عبر مواصلة النضال وتجسيد إرادة الشعب الفلسطيني الهادفة إلى إنهاء الاحتلال وتجسيد الحرية والاستقلال.
الرئيس عباس رهين رهاناته الخاسرة
إن الرئيس كان وسيبقى رهين سياساته ورهاناته الخاسرة؛ لأنه ألقى بكل أوراق القوة والضغط التي يمكن أن تغير الواقع البائس الذي تعيشه القيادة الفلسطينية، فالسياسة الرسمية تعتمد منذ سنوات طويلة إستراتيجيات البقاء والانتظار والرهان على الآخرين، وليس الرهان على الشعب وصموده ونضاله وتضحياته وعدالة قضيته، ولا على الأبعاد العربية والإسلامية والإنسانية التحررية للقضية الفلسطينية. هذه الأبعاد التي تدعم ومستعدة لدعم أقوى بكثير للنضال الفلسطيني التحرري، وليس اللاهث وراء أوهام ضارة وتسوية لن تأتي وحدها ولا عبر المفاوضات، بل تفرض فرضًا باعتماد مختلف أشكال المقاومة والكفاح السياسي، بما في ذلك المفاوضات في الوقت المناسب بعد تغيير الحقائق وموازين القوى على الأرض؛ حيث تترجم المفاوضات الانتصارات والحقائق على الأرض على طاولة المفاوضات.
اختباران لفحص جدية حديث الرئيس
وحتى لا نكون عدميين ويائسين كليًا من القيادة الرسمية، على الرغم من القناعة العميقة بأنها أخرجت نفسها من دائرة الفعل القادر على النهوض مجددًا بالشعب الفلسطيني، نضعها أمام اختبارين لإثبات الجدية بتطبيق ما قاله الرئيس:
الأول، أن تدعو فورًا إلى حوار وطني شامل تمثيلي واسع، لا يعيد إنتاج الحوارات السابقة وبنفس الأشخاص السابقين، بل يستهدف مشاركة وجوه ودماء جديدة وشابة من الجنسين، مع تمثيل مختلف القطاعات والتجمعات الفلسطينية، ووضع برنامج يجسد القواسم المشتركة والشراكة الحقيقية، ويقود إلى بلورة إستراتيجيات جديدة، وتشكيل قيادة وطنية واحدة قادرة على تحقيق الأهداف والحقوق الفلسطينية.
الثاني، إعادة النظر في التزامات أوسلو، بما يشمل إعادة النظر في شكل السلطة وطبيعتها ووظائفها والتزاماتها وموازنتها، لتصبح أداة في خدمة البرنامج الوطني، وخطوة على طريق استقلال دولة فلسطين التي يجب التصرف على أساس أنها قائمة ولكنها تحت الاحتلال، وتكون السلطة أداة من أدوات منظمة التحرير التي يجب إعادة بنائها لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي الفلسطيني، وتكون قولًا وعملًا الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.