ما حدث ولا يزال جاريا في الأرض المحتلة مشهد يفوق الخيال على كل الأصعدة؛ فكيف تحولت غزة المحاصرة منذ سنوات إلى قوة عسكرية ضاربة تسيطر المقاومة فيها على ضعف مساحتها وتستعيد مستوطنات اغتصبها المحتل وطرد منها سكانها الأصليين؟
لن نعود إلى جذور الصراع التي يعرفها الكثيرون ولا إلى عدد المجازر والمذابح التي ارتكبها المحتل منذ مذبحة بلدة الشيخ 1947 ومذبحة دير ياسين 1948 وصولا إلى مذبحة صبرا وشاتيلا 1982 ومذبحة جينين 2002، مرورا بعشرات المجازر والمذابح التي قتل فيها النساء والشيوخ والأطفال. لن نخوض كذلك في سرديات المفاوضات وسراب السلام ووعود الدولة الفلسطينية الزائفة وخيانة السلطة الفلسطينية لكن من المهم اليوم تبيّن حجم التزييف والتضليل الذي أحاط بسرديات المشهد الفلسطيني وشكّل رصيدا تمثّله عند جمهور عريض من العرب والمسلمين.
قناع حقوق الإنسان
لعلّه أول الأقنعة التي سقطت إنما كانت عن صورة الغرب معقل حقوق الإنسان الذي يدّعي ذلك؛ فقد خرجت كل الأجهزة الرسمية لتعلن عن دعمها الكامل وغير المشروط لجيش الاحتلال وسط مزايدات وقحة في الشماتة والعنصرية. فإذا كان وزير دفاع دولة الاحتلال قد وصف الفلسطينيين بأنهم "حيوانات وأنه سيعاملهم حسب هذا المبدأ"، فإن كل المسؤولين السياسيين الغربيين وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي "بادين" ورئيسة المفوضية الأوربية "فون ديرلاين" قد صنفا الحرب بأنها "حرب ضد الإرهابيين في غزة" وهو ما يصنف كل سكان غزة وعددهم يقارب الثلاثة ملايين في خانة الإرهابيين.
لم تحمل تصريحات المسؤولين السياسيين في الغرب وأذرعهم الإعلامية أية إشارة إلى مأساة شعب فلسطين طوال أكثر من نصف قرن من المجازر الصهيونية. هذا الأمر ينسف كل الأكاذيب عن القيم الأوروبية وحقوق الإنسان والعدالة والحرية والتنوع والتعايش وحوار الأديان وتقارب الحضارات ... وغيرها من الشعارات الكاذبة التي سقطت مع أول امتحان حقيقي.
في حقيقة الأمر ليس سقوط هذا القناع مرتبطا بما يحدث في غزة اليوم بل هو سليل الجرائم التي ارتكبها الغرب في بلاد العرب والمسلمين في العراق وسوريا وأفغانستان وكل الدول التي احتلتها بلجيكا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا وهولندا وألمانيا وإسبانيا والبرتغال ... عبر القرون الأخيرة. ففي الولايات المتحدة وكندا وأستراليا محت الحضارة الغربية المسيحية حضارات الشعوب الأصليين وأبادت ما استطاعت الوصول إليه منهم، وبالأمس القريب رأينا في "سجن أبو غريب" في العراق كيف تجلت حقوق الإنسان جلية ناصعة للناظرين.
المسلم والعربي في نظر النظام السياسي الغربي إرهابيان ويجب معاملتهم على هذا الأساس وهو ما صرح به السيناتور الأمريكي "لندسي غراهام " حين وصف الحرب بأنها حرب دينية وهي بذلك امتداد للحروب الصليبية ضد الشرق المسلم.
قناع التضامن العربي
في الوقت الذي تشحن فيه الدول الغربية الأسلحة والجنود والأموال لنصرة جيش الاحتلال فإن الدول العربية تكتفي بالبيانات وخطابات الدعوة إلى التهدئة والمساواة بين الجلاد والضحية باستثناءات قليلة جدا. ففي معبر رفح الذي يفصل قطاع غزة عن مصر عادت شاحنات المساعدات أدراجها بعد أن هدد المحتل بقصفها، بل وقام بقصف المعبر أكثر من مرة دون ردة فعل مصرية تذكر ولو حتى بالتنديد الكاذب.
وهناك دول أخرى مثل الإمارات والبحرين التي "نددت بالتصعيد الفلسطيني الذي قادته مجموعات إرهابية ضد المدنيين في إسرائيل ". أما جامعة الدول العربية فقد اكتفت بتصريحات هزيلة كعادة هذه المنظمة البائسة التي تعبّر بحق عن القاع الذي وصل إليه الانكسار والفساد العربي بقيادة مصر.
اللافت أيضا في هذا الإطار هو ظهور عدد من الأصوات التي تعالت لأول مرة تقريبا في سياقات مشابهة بالهجوم اللاذع على الفلسطينيين خاصة في الخليج، وهي ظاهرة جديدة لم يعرفها المشهد العربي من قبل. هذا الخطاب الجديد يأتي في الحقيقة من منصات تشرف على عملية التطبيع المتسارعة بين دول الخليج وخاصة السعودية والإمارات التي تلقت مساعيها في التطبيع ضربة موجعة.
هاته الأصوات التي أطلق عليها المغردون اسم "الصهاينة العرب" تبدو اليوم أكثر وقاحة في الهجوم على المحتويات الفلسطينية وفي تشويه نضال الشعب الفلسطيني واتهامه بالإرهاب بشكل لم يحدث من قبل.
لكن الأبرز من ذلك هو الصمت المطبق الذي ضرب كل المشاهير والوجوه العربية المعروفة على الساحات الرياضية والفنية والفكرية وغيرها باستثناءات قليلة هنا وهناك. هذه الظاهرة الخطيرة تؤكد أن هاته الفئات المتقدمة إعلاميا هي في الحقيقة جزء من النظام الرسمي العربي الذي أصيب هو الآخر بالصدمة من جراء العملية الأخيرة في فلسطين المحتلة.
أما الشعوب فتقف عاجزة عن الحركة بعد أن فعل الاستبداد بها فعله؛ فجزء كبير منها لا يهمه غير توفير ضروريات الحياة له ولعائلته وسط بحيرات الفساد التي تسبح فيها المنطقة. أما الذين يريدون مساعدة شعب فلسطين ولو طبيا أو إغاثيا فهم ممنوعون من ذلك وقد يوضعون على "لوائح الإرهاب والتردد على بؤر التوتر" كما هو الحال في أغلب الدول العربية. لكن يصبح السفر إلى القتال حلالا وواجبا إنسانيا وعقائديا حين يتعلق الأمر بطائرات كاملة محملة بالشباب اليهودي القادم من كل القارات للمشاركة في قتل أهل غزة.
أقنعة كثيرة سقطت ولا تزال أقنعة أخرى ستسقط. فقد سقط قناع "محور المقاومة والممانعة" وقناع "التضامن الإسلامي" وقناع "نصرة الأقصى". سقط قناع "الشارع العربي" وقناع "الالتزام العربي" وقناع "وحدة المصير" ... وغيرها من الأقنعة التي ضللت شعوب الأمة عقودا من الزمن.
رغم كل هذه الأقنعة التي سقطت فستبقى "أسطورة الجيش الذي لا يهزم" هي أكبر الأقنعة التي تهاوت خلال ساعات أمام إرادة تحرير فلسطين كل فلسطين من الغزاة والمحتلين.