يصادف هذا الشهر الذكرى السنوية الثلاثين لاستسلام منظمة التحرير الفلسطينية لإسرائيل تحت عنوان ما يسمى اتفاقات أوسلو. فبينما كان الشعب الفلسطيني يملؤه الأمل نتيجة نجاح مقاومته المستمرة للاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي في أيلول/ سبتمبر 1993، حيث كان الفلسطينيون مستمرون حينها في خوض ثورة لا تكل ضده كانوا قد فجروها في كانون الأول/ ديسمبر 1987 عُرفت عالمياً باسم "الانتفاضة"، كان اليأس قد ملأ قلوب قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في تونس. فبعد أن فقدت المنظمة الدعم الدبلوماسي من الكتلة الشرقية بعيد سقوط الاتحاد السوفييتي، وفقدت كذلك الدعم المالي من الأنظمة الاستبدادية في الخليج العربي في أعقاب حرب الخليج (1990-1991)، لم يتبق لدى منظمة التحرير الفلسطينية اليائسة غير ورقة أخيرة لتلعبها، ألا وهي التعاون مع إسرائيل والدول العربية الصديقة لإسرائيل والإمبريالية العالمية راعية إسرائيل لمساعدتها على قمع الانتفاضة.
النضال الفلسطيني المستمر لهزيمة المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني بمثابة حرب قائمة بين الفلسطينيين من حَمَلة الأمل بالتحرير واليائسين منه، حيث إن توازن القوى بين هاتين المجموعتين هو الذي حكم (ولا يزال يحكم) مد وجزر المقاومة الفلسطينية منذ بدايتها في أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر، عندما واجه الشعب الفلسطيني باكورة المستوطنين اليهود الأوروبيين
كان المتمسكون بالأمل من الفلسطينيين دائما في طليعة المقاومة، التي أصبحت أكثر تنظيماً في عشرينيات القرن الماضي، باستثناء الفلسطينيين اليائسين الذين تعاونوا مع البريطانيين، واليائسين أكثر الذين تعاونوا مع الصهاينة، وهؤلاء كانوا أيضاً ذوي نفوذ ومنظمين جيداً. وفي الثلاثينيات، نظّم أصحاب الأمل أكبر مقاومة في التاريخ في حينه، والتي تجلت في الثورة الفلسطينية الكبرى بين عامي 1936 و1939. ولكن حتى في تلك الحقبة، قام الفلسطينيون اليائسون بتنظيم عصابات تسمى "فصائل السلام"، بالتعاون مع البريطانيين والصهاينة، لاستهداف وقتل أعضاء المقاومة الفلسطينية المفعمة بالأمل.
منذ بداياتها، اعتمدت الحركة الصهيونية على فرضية إذعان ليس فقط طبقة ملّاك الأراضي الفلسطينيين، ولكن أيضاً الفلاحين ونخبة المثقفين، لمشروعها لتجريد الشعب الفلسطيني من ممتلكاته وسرقة وطنه لصالح المستوطنين اليهود الأوروبيين الذين سيحلون محلهم. وقد أدرك الزعيم الصهيوني فلاديمير جابوتنسكي، الذي أسس فيما بعد حركة الصهيونية التصحيحية اليمينية، منذ عام 1923 أن الإذعان الفلسطيني لا يمكن تحقيقه إلا عندما يتمكن الصهاينة من إطفاء أي أمل في قلوب الفلسطينيين بأنهم سيتمكنون من شن مقاومة ناجحة لمناهضة الاستعمار الاستيطاني وهزيمة المستعمرين: "سيقاوم كل شعب أصلي المستوطنين الأجانب طالما أنهم يرون أي أمل في تخليص أنفسهم من خطر الاستيطان الأجنبي". وفي الواقع، بما أن الفلسطينيين كانوا يقاومون الاستعمار اليهودي بالفعل في حينه، فإنهم "سوف يستمرون في القيام بذلك طالما بقيت لديهم شرارة أمل واحدة بأنهم سوف يتمكنون من منع تحول فلسطين إلى أرض إسرائيل".
يكشف لنا فهم جابوتنسكي لاستراتيجية الصهيونية طويلة الأمد الكثير: "كل هذا لا يعني أن الوصول لأي نوع من الاتفاق (مع الفلسطينيين) مستحيل، بل إن الوصول لاتفاق طوعي معهم وحده هو المستحيل". وذلك لأنه "طالما أن هناك بارقة أمل في أن يتمكنوا من التخلص منا، فلن يبيعوا هذه الآمال". وأضاف جابوتينسكي أن "الشعب الحي يقدم مثل هذه التنازلات الهائلة بشأن مثل هذه المسائل المصيرية فقط عندما لا يكون لديه أمل". وبالتالي فإن المهمة الماثلة أمام الصهيونية كانت دائماً تتلخص في إطفاء الأمل في قلوب الفلسطينيين، ناهيك عن غيرهم من العرب، في قدرتهم على هزيمة المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني. ولكن رغم محاولات الصهيونية منذ بدايتها القيام بذلك، إلا أنها فشلت في إطفاء هذا الأمل في قلوب معظم الفلسطينيين وغيرهم من العرب.
ولم يكن المخطط الصهيوني، الذي تضمن شرطاً مفاده أنه "إذا كان من المستحيل الحصول على تأييد عرب فلسطين للصهيونية، فيجب الحصول عليها من عرب سوريا والعراق والمملكة العربية السعودية وربما مصر"، مقنعاً لجابوتنسكي، فعلّق عليه بما يلي: "وحتى لو كان هذا ممكنا، فإنه لن يغير الوضع الأساسي، ولن يغير موقف العرب في أرض إسرائيل تجاهنا"، مما يعنيه أن الفلسطينيين سيظلون متفائلين بهزيمة الصهيونية سواء صنع المصريون، أو السعوديون، أو العراقيون، أو السوريون السلام مع إسرائيل أم لا.
ويوضح جابوتنسكي أن "الاتفاق مع العرب خارج أرض إسرائيل هو أيضاً وهْم، فلكي نخمد أمل الدول العربية في هزيمة الصهيونية كان علينا أن نقدم لها شيئاً ذا قيمة مماثلة. ونحن يمكننا أن نقدم أمرين فقط: إما المال، أو المساعدة السياسية، أو كليهما".
هنا أخطأ جابوتنسكي في حساباته، فهو اعتقد بأنه "لا يمكننا أن نقدم أياً منهما"، وأكد أن الأموال المتوفرة لا تكاد تكفي للمشروع الصهيوني نفسه، وأضاف أن "المساعدة السياسية للتطلعات السياسية العربية هي أكثر وهماً بعشر مرات". لقد حلل جابوتنسكي الوضع تحت الوهم القائل بأن الدول العربية آنذاك كانت تدار من قبل العرب المناهضين للاستعمار الذين كانوا يسعون للتخلص منه، وليس من قبل الحكام الذين كانوا يتعاونون بالفعل مع الإمبريالية الغربية. ولهذا السبب شعر جابوتنسكي بأنه نتيجة تحالف الصهيونية مع الاستعمار "لا يمكننا أن نخطط لإخراج بريطانيا من قناة السويس والخليج العربي والقضاء على الحكم الاستعماري الفرنسي والإيطالي على الأراضي العربية، فلا يمكننا أن نتبنّى مثل هذه اللعبة المزدوجة بأي حال من الأحوال".
ما فشل جابوتنسكي في إدراكه هو أنه كان بالفعل يمكن للصهاينة تقديم المساعدة السياسية للدول العربية (كما فعلت فيما بعد)، لكن ليس في معارضة النفوذ الاستعماري، بل في الحفاظ على النفوذ الإمبريالي الضروري وتعزيزه للحفاظ على عروش الأنظمة العربية الملكية، ولاحقاً حتى على الأنظمة الجمهورية. فبمجرد أن أطاح رؤساء الجمهوريات العربية بمؤسسي جمهورياتهم الأكثر تقدمية، سعوا على الفور إلى الحصول على الرعاية الإمبراطورية. ينطبق ذلك على مصر في عهد أنور السادات، بقدر ما ينطبق على الأردن والمغرب ومعظم ممالك الخليج، وكذلك على ليبيا والعراق والسودان وتونس في العقدين الأخيرين، والتي إما تحالفت أنظمتها الحاكمة بالفعل مع إسرائيل أو خاضت محادثات سرية معها تهدف للتطبيع. ولقد كامت هذه المساعدة السياسية هي التي حطمت آمال الأنظمة العربية في تحرير فلسطين، ورفعت آمالهم في أن يصبحوا خادمين حقيقيين للإمبريالية.
بما أن تحليل جابوتنسكي لخطط الحركة الصهيونية كان معتمداً على السياق السياسي القائم في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، استنتج أن "الموافقة الطوعية للفلسطينيين على المشروع الصهيوني غير واردة"، وبالتالي "يجب إما إنهاء الاستعمار الصهيوني طراً، حتى الاستيطان المحدود منه، أو تنفيذه بالكامل في تحدٍ لإرادة السكان الأصليين. ولذلك، لا يمكن لهذا الاستعمار أن يستمر ويتطور إلا تحت حماية قوة مستقلة عن السكان المحليين". وكانت تلك القوة بطبيعة الحال هي بريطانيا وعصبة الأمم، وبعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت الولايات المتحدة والأمم المتحدة وجزء كبير من أوروبا هم رعاة المشروع.
عندما أصدرت إسرائيل في عام 1948 "إعلان تأسيس الدولة اليهودية"، زعمت أن إنجازها كان تحقيقاً للآمال الصهيونية، التي زعمت أنها كانت دائماً آمالاً "يهودية": "فبعد طرده من فلسطين، بقي الشعب اليهودي مخلصاً لها في جميع بلدان شتاته، ولم ينقطع عن الصلاة والأمل في عودته إليها واستعادة حريته الوطنية".
وفي الواقع، فإن كلمة "الأمل" مكرسة في عنوان النشيد الوطني الصهيوني "هتكفاه" الذي يعني "الأمل"، والذي يكرر فيه الصهاينة أن "أملنا -الأمل الذي يبلغ من العمر ألفي عام- لم يضع: أن نكون شعباً حراً في أرضنا، أرض صهيون والقدس". ولسوء حظ الصهاينة، فإن من كتب نشيد "هتكفاه" كان في الواقع صهيونيا فاشلا، وهو المستعمر اليهودي الأوكراني- النمساوي نفتالي هيرز إيمبر. فقد عمل هيرز إيمبر، الذي وصل إلى فلسطين في عام 1882، مع الصهيوني البروتستانتي البريطاني لورانس أوليفانت، الذي كان قد وضع خططاً لإنشاء مستعمرات زراعية ليهود أوروبا في البلاد. وبعد سبع سنوات من إقامته في فلسطين، أي في عام 1889، فقد هيرز إيمبر الأمل في كل الخطط الصهيونية، البروتستانتية واليهودية منها، للاستعمار الاستيطاني اليهودي وهاجر من فلسطين، وانتهى به الأمر في تلك المستعمرة الاستيطانية الأوروبية الأخرى، أي الولايات المتحدة، حيث عاش سنوات عمره المتبقية. لكن ظل بقية الصهاينة على أمل أن يتمكنوا من إطفاء آمال الفلسطينيين في مقاومتهم لمشروعهم الاستيطاني.
وكان جابوتنسكي قد توقع الظروف التي كانت ستؤدي إلى انحطاط منظمة التحرير الفلسطينية في أوسلو، حيث أصر على أنه عندما ينطفئ الأمل بالكامل، "عندها فقط تفقد الجماعات المتطرفة نفوذها، وينتقل نفوذها إلى الجماعات المعتدلة. عندها فقط ستأتي إلينا هذه المجموعات المعتدلة بمقترحات للتنازلات المتبادلة، وحينها فقط سوف يقدم المعتدلون اقتراحات للتوصل إلى حل وسط بشأن المسائل العملية مثل الضمانات ضد التهجير، أو المساواة، والحكم الذاتي". وكان هذا في الأساس ما قدمته منظمة التحرير الفلسطينية والمثقفون الفلسطينيون التابعون لها بالفعل كتنازلات لعملية أوسلو، رغم أن إسرائيل لم تقدم لهم أي ضمانات بشأن أي منها.
وهنا كان جابوتنسكي صاحب بصيرة واضحة فيما يتعلق بالتحول الذي شهدته الحركة الوطنية الفلسطينية، والذي بدأ في أوائل ومنتصف السبعينيات وأدى إلى تدهور منظمة التحرير الفلسطينية نهائياً وتحولها المخزي إلى السلطة الفلسطينية المتعاونة مع الاستعمار الصهيوني في عام 1994. ما لم يأخذه جابوتنسكي في الحسبان هو فشل إسرائيل وحلفائها العرب والمتعاونين معها في السلطة الفلسطينية في إطفاء الأمل في قلوب الفلسطينيين، حيث إن "الجماعات المتطرفة"، وهذه إشارة إلى الجماعات المقاومة المفعمة بالأمل والتي تطالب بإنهاء الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، هي التي بدأت في الصعود منذ أواخر الثمانينيات وتستمر شعبيتها في الارتفاع بسبب الآمال التي تملأ قلوب الناس بإمكانية هزيمة المشروع الصهيوني بالفعل.
صحيح أن الجزء الأكبر من المثقفين الفلسطينيين الليبراليين اليائسين كانوا منذ البداية قد دعموا عملية أوسلو ونظام السلطة الفلسطينية الذي جاء بعدها، وفي واقع الأمر، ما زال بعضهم ممن أصبحوا فيما بعد من نقاد السلطة الفلسطينية يأملون في الحصول على شهادة حسن سيرة وسلوك من الصهاينة ورعاتهم الإمبرياليين، كما هو حال هؤلاء الذين أدانوا آراء محمود عباس المسيئة لليهود الأوروبيين هذا الأسبوع، ولكنهم لم يجدوا في الشهرين الأخيرين مناسبة واحدة لإصدار إدانة جماعية لتعاون عباس المتزايد مع إسرائيل أو لحملته القمعية التي تستهدف المقاومة الفلسطينية نيابة عنها.
إن ما سيحدد نتيجة النضال الفلسطيني ضد الاستعمار الاستيطاني هو الأمل الذي لا يزال يلهم الفلسطينيين المقاومين، وهو الأمل الذي يتجدد باستمرار نتيجة القمع الإسرائيلي المستمر للشعب الفلسطيني ونهبه لأراضيه. هؤلاء الفلسطينيون المفعمون بالأمل هم الذين ما انفكوا يقاومون إسرائيل في غزة والضفة الغربية، وداخل إسرائيل نفسها، منذ التوقيع على استسلام أوسلو، وهم الذين فشل الفلسطينيون اليائسون وإسرائيل وأصدقاؤها العرب ورعاتها الإمبرياليون في هزيمتهم.