الشهيد موسى أبو محاميد، ضحية جديدة لجرائم الاحتلال الإسرائيلي، ولكن
أهي فعلا جريمة إهمال طبي؟
يخلو القانون الدولي بكافة فروعه، بما في ذلك القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، مما يسمى جريمة الإهمال الطبي، أو جريمة الإهمال الطبي المتعمد. فبداية، إن القانون الدولي وإن كان قد أوقع التزامات على السلطة القائمة بالاحتلال بتقديم الرعاية الطبية الدورية للأسرى والمعتقلين، وتقديم العلاج اللازم والرعاية الطبية المطلوبة، وتوفير عيادات صحية وأطباء متخصصين، إلا أن الفشل في تحقيق ذلك، لم يعتبره القانون الدولي بحد ذاته جريمة يعاقب عليها، أو انتهاكا جسيما وفقا لاتفاقيات جنيف. كما أن وصف فعل كل ما فيه متعمد، بالسلوك والنتيجة، والعلم بهما، لا يستقيم مع وصف الإهمال ولا حتى الإهمال المتعمد (وهو الوصف المربك قانونيا)، كون أن الإهمال هو الوصف القانوني للقيام بخطأ أو تقصير ناتج عن عدم أخذ الحيطة والحذر أو سوء تقدير، نتج عنه الضرر، والحالة هنا بالطبع ليست كذلك.
إذا، كيف يمكن تكييف جرائم الاحتلال ضد الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في هذا السياق؟
إن ما يقع بحق الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين يحتمل أكثر من تكييف بحسب القانون الدولي، يختلف باختلاف كل حالة والظروف المحيطة بها، ليس منها الإهمال الطبي. ولكن يمكن القول أن ما يتعرض له هؤلاء الأسرى والمعتقلين من حرمان من العلاج أو تقديم الرعاية الطبية الضرورية في كثير من الأحيان، خاصة في حالات الأمراض والإصابات الخطيرة، يصل إلى حد التعذيب. فجريمة التعذيب وعلى خلاف ما هو شائع، لا يشترط لقيامها، أن يكون إحداث الألم البدني أو المعنوي الشديد، أو المعاناة الشديدة، مرتبطا بقصد نزع معلومات أو اعتراف ما. فعلى سبيل المثال، وبحسب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، واتفاقية مناهضة التعذيب الدولية، يعتبر إلحاق الضرر الشديد أو المعاناة الشديدة تعذيبا إذا ما كان الهدف منه العقاب، أو لسبب يقوم على أي نوع من أنواع التمييز، بما في ذلك التمييز العرقي، وهي الحالات الأقرب لوصف ما يواجهه الأسرى والمعتقلون الفلسطينيون في سجون الاحتلال. وبالتالي، تزيد فرصة ملاحقة تلك الأفعال أمام المحكمة الجنائية الدولية بوصفها جريمة التعذيب إما وفقا لأحكام الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب بحسب استيفائها لشروط أي منها، في حين لا يمكن ملاحقة تلك الأفعال بوصفها إهمالا طبيا، لخلو نظام روما الأساسي من النص على هذه الجريمة، ولا جريمة إلا بنص (المادة ٢٢ من نظام روما الأساسي).
والأهم من ذلك، إن تكييف تلك الأفعال بوصفها تعذيبا، يضعها ضمن نطاق القواعد الآمرة jus cogens للقانون الدولي، التي تحظر التعذيب بشكل مطلق، فلا استثناءات إباحة لها، ولا تقادم عليها، وهي ملزمة للجميع، دولا وأفراد، ولا يمكن التنصل من حظرها بدعوى عدم إلزامية تطبيق القانون الدولي، كما تدعي إسرائيل دوما بعدم انطباق القانون الدولي الإنساني على الأرض الفلسطينية المحتلة، ومحاولتها المستمرة للتنصل من التزاماتها بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، باعتبارها صاحبة السيطرة/الولاية الفعلية على الفلسطينيين، فهي ملزمة بمنع وقوع جريمة التعذيب تحت أي ظرف، وعلى أي يد. كما أن القواعد الآمرة للقانون الدولي من شأنها تحريك الاختصاص القضائي العالمي للدول، وبغض النظر عن مكان وقوع الجريمة، وجنسية الجاني و/أو الضحية، وذلك وفقا للقوانين المعمول بها في تلك الدول.
أما في الحالات التي يتعذر فيها إثبات قيام جريمة التعذيب، لأي سبب من الأسباب، سواء من حيث عنصر الشدة، أو وجود قصد خاص (باعتبارها جريمة حرب) ، أو سعة انتشارها أو منهجيتها (كجريمة ضد الإنسانية)، فحينها يمكن تكييف الأفعال المرتكبة ضد الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في هذا السياق، بجريمة المعاملة اللاإنسانية، وهي الجريمة التي لا يشترط لقيامها أن يرافق إحداث الألم والمعاناة أي قصد خاص، وفقا لنظام روما الأساسي، ودون اشتراط ارتكابها كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي، باعتبارها جريمة حرب وليست جريمة ضد الإنسانية.
وتتشارك كل من جريمة التعذيب وجريمة المعاملة اللاإنسانية بكونهما من الانتهاكات والمخالفات الجسيمة للقانون الدولي وذلك بحسب اتفاقيات جنيف وبروتوكولها الأول الإضافي ، التي لا تنحصر ملاحقتها أمام المحاكم الدولية فقط، بل يمكن ملاحقة فاعليها أمام محاكم الدول، وذلك وفقا للاختصاص القضائي العالمي.
وبالإضافة إلى جريمة التعذيب والمعاملة اللاإنسانية، يمكن أيضا تكييف حرمان حصول الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين من العلاج اللازم بوصفه "جريمة تعمد إحداث معاناة شديدة أو إلحاق أذى خطير بالجسم والصحة"، وهي جريمة حرب منفصلة قائمة بحد ذاتها وفقا لأحكام نظام روما الأساسي (المادة ٨)، كما وتشكل هذه الجريمة انتهاكا من الانتهاكات الجسيمة وفقا لأحكام اتفاقيات جنيف وبروتوكولها الأول الإضافي، التي وكما ذكر سابقا، من شأنها تحريك الاختصاص القضائي العالمي للدول، حتى في حالات غياب أي رابط ما بين هذه الدول وبين الجريمة، وذلك تجنبا لإفلات مرتكبي جرائم الحرب من العقاب ومنعهم من العثور على ملاذ آمن.
إذا هل من الخاطئ وصف ما يحدث بجريمة الإهمال الطبي؟
نعم، لأنه، وكما تمت الإشارة أعلاه، لا يوجد جريمة مسماة بهذا الاسم في قواعد القانون الدولي، والقانون الدولي مثله مثل القانون المحلي، يلتزم بمبدأ الشرعية، أي لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص. وبالتالي إن إخراج هذه الجريمة من طبيعتها، قد يزيد من فرص إخراجها من نطاق اختصاص المحاكم الدولية، وكذلك من نطاق الاختصاص القضائي العالمي، وذلك لكوننا نحن أصحاب الحق والمصلحة قد غفلنا عن تقديمها بالتكييف القانوني الأدق الذي يُلزم المحاكم والدول بالنظر إليها، وتركها لتقديرهم، وكذلك الوقوع في فخ عدم التحضير الكافي لكل ما يلزم لإثبات وقوعها وتحقق أركانها. كما إن وصف ما يتعرض له الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، بالخطأ أو التقصير ومجرد فشل في اخذ الحيطة والحذر، وهي الأفعال القانونية المكونة للإهمال، فيه تخفيفا وقد يكون إعفاء للاحتلال من جرائمه المتعمدة والمدروسة والمنهجية ضد الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، وفيه كذلك تفويتا لحق هؤلاء في الحصول على العدالة الناجزة بما في ذلك، الاقتصاص من مرتكبي هذه الجريمة، وكذلك الحصول على التعويض وجبر الضرر.