شبكة قدس الإخبارية

ما يجمع نموذجي باب العامود ومخيم جنين

20220412072928
عوض عبد الفتاح

لم تعدْ القدس، كنموذج مقاوم، وحيدةً، وهو نموذج المقاومة الشعبية. فها هي جنين تلتحق بها، لكن عبر الجمع بين أشكال مختلفة من المقاومة. كان المحللون الفلسطينيون قد أشاروا إلى أن نهوضَ الحركة الشعبية، من رحم المعاناة في أحياء المدينة المقدسة، لم يكن ليحصل لو كان لسلطة أوسلو قبضة أمنية فيها. وسلطة أوسلو، ببنيتها وطبيعة وظيفتها، تقوم على تجريم المقاومة أو على الأقل على عرقلتها، من خلال التخابر مع المستعمر.

أما جنين، وخاصةً مُخيمها الأسطوري، فقد نجحت في ضعضعة قبضة نظام أوسلو عليها، بفضل هذا المخيم المقاوم، وعزيمة شبابه ونسائه. ونجحت شرائح من الشباب المحسوبين على حزب السلطة، من الإفلات من هيمنته، وأيديولوجيته الانهزامية. هكذا بِتنا أمام مخيم فلسطيني، يشقُّ طريقه متحديًا المنظومة الأوسلوية، ومنظومة الاستعمار معًا، تتحسب وتتهيب حكومة الأبرتهايد من اقتحامه وتكرار مجازرها لعام 2002، خوفًا، ليس من المقاومة الجسورة المتوقعة فحسب، بل لأن عدوانا همجيا من هذا النوع، كفيلٌ بتفجير المقاومة في كل فلسطين. ولا نستطيع الجزم بعدم إقدام المستعمر على فعل وحشيّ كهذا، إذ أن الأحداث تتوالى، وتفاعلاتها مستمرة.

وفي ظل هذا التطور المستجد، تعود أشكال النضال والمقاومة إلى التداول، وأي منها يكون أكثر ملائمة للواقع الفلسطيني الراهن، وأي منها أكثر نجاعة، وأي إستراتيجية كفاحية كفيلة بإحداث تراكمات حقيقية، وتُمكن الشعب الفلسطيني من تحمّل أعباء النضال الطويل. وما ميّز النقاش في السنوات الأخيرة، داخل الجسم الفلسطيني الشعبي، خاصة بعد الهبات الشعبية، والحراكات الشبابية، التي شهدتها مدينة القدس، في الأعوام العشرة الأخيرة أو ما يزيد، والتي أحدثت ثغرات جدية في جدار السيطرة الاستعمارية على إرادة الناس في المدينة، وكذلك الهبات في أماكن أخرى من فلسطين، هو التحرر من الارتهان لشكل واحدٍ من النضال، ولطابع القدسية. ما معناه، أن المقاومة الشعبية الشاملة، باتت مقبولة على معظم إن لم يكن جميع مركبات الجسم الفلسطيني، الفصائلي والشعبي. وقد رأينا حركات المقاومة في قطاع غزة، جميعها، تتبنى وتمارس هذا النوع من المقاومة، والذي تجلى في مسيرات العودة عام 2018. غير أن إسرائيل تعاملت مع المتظاهرين كما تتعامل مع أي مواجهة عسكرية. فقد أغرقت هذه المسيرات السلمية بالدم، وأزهقت أرواح الناس، إذ سقط المئات بين شهيد وجريح، ويعيش العشرات من الجرحى بدون أطراف. وهذا السلوك الإسرائيلي الهمجي، أعاد الشك لدى الكثيرين، في جدوى المقاومة الشعبية.

ومع ذلك، واصل أهالي القدس، ومن بعدها، قرى فلسطينية في الضفة الغربية، المقاومة الشعبية، التي أيضا استعملت خلالها سلطات الأبرتهايد، الرصاص الحي، فقتلت وجرحت العشرات، دون أن يُردع المقاومون عن مواصلة هذا الشكل الفاعل من الفعل النضالي. وفي هذا السياق، تحوّلت أحياء مدينة القدس وأبواب المدينة: شعفاط، والشيخ جراح، وسلوان، وباب الأسباط، وباب الرحمة، وباب العامود، إلى فضاءات يصنع فيها الناس السياسة، ونماذجهم الثورية. وهكذا أعاد أهل القدس، وبمشاركة فلسطينيي الـ48، الاعتبار للنضال والفعل السياسي، ضد مشاريع التهويد، والتطهير العرقي، والحصار الاستيطاني، والإفقار، والاقتحامات المستمرة للأقصى. والأمر الذس شكل استمرارية لهذا الفعل المقاوم وأدى إلى تجدد هبات القدس وتحقيق إنجازات، هو طابعها الشعبي.

شكل باب العامود في شهر رمضان من العام الماضي، الذي بدأ يتحول إلى أشبه بميدان الثورة، قادحا لشرارة الهبة التي اجتاحت فلسطين من البحر إلى النهر، وزلزلت الكيان.

كل ما يجري من حراكات وهبات فلسطينية، يُجسد فعلًا موضوعيًا تراكميًا، وعملية بناء من تحت، لبديل ثوري تحرري، في تحدٍّ واضحٍ ليس لنظام الأبرتهايد الاستعماري والأنظمة العربية المطبعة والمتحالفة مع المستعمر فحسب، بل أيضًا، لنظام أوسلو وبصورة أقل لمن يطلق الشعارات الكبيرة، ويدعو لمعركة فاصلة، ويسعى لتحميل شعبنا أكثر مما يحتمل.

القدس تُعلمنا درسًا كبيرًا. هي المدينة التي أعملت فيها حكومات الأبرتهايد المتعاقبة، أخطر وأبشع المخططات الاستيطانية والإجراءات القمعية؛ حصارها من كل الجهات بالاستيطان، وحصارها اقتصاديا، وإهمال منهجي ومتعمد لتطورها، وقمع واعتقالات، وإغلاق مؤسساتها، وإنفلات المستوطنين واقتحاماتهم المتكررة لساحات الأقصى، وجمعيات استيطانية تُستخدم في التطهير العرقي المستمرة، ومحاولات تدمير المجتمع المقدسي من الداخل.

على ضوء ذلك، وفي ظل تخلي نظام أوسلو وأنظمة العرب عنها، فإن النهضة الشعبية الوطنية في القدس، تشكل ملحمة حقيقية في مسيرة الحفاظ على الوجود والتحرر الوطني. لقد باتت المدينة قبلة الكل الفلسطيني، وخاصة الأجيال الجديدة، أي النافذة التي من خلالها يُعاد تشكيل الوعي بفلسطين وبفكرة التحرر. إنها مسيرة تحتاج لكثير من الحكمة والقدرة على فهم تعقيدات الواقع السياسي والمادي الذي يُحيط بنا، وكذلك التناقضات الخطيرة التي نمت داخل صفوفنا، والتي تشكل التحدي الأكبر أمام شرط الاستمرارية والبناء التدريجي.

لا نعرف كيف ستتطور الحراكات الحالية في القدس وجنين وسائر فلسطين، غير أن ما بات مؤكدًا، أن هناك نموّا لطلائع متزايدة متجددة في صفوف شعبنا، ما عادت تقبل السكون والظلم الفاحش، ولا تقبل التسليم للفكر الهدام سواء الانهزامي، أو المغامر. فهذا مخيم جنين، ومن رحم القهر والحرمان وذل اللجوء، يعيد إنتاج نموذجه التاريخي، بعد أن انسدّت كل الأبواب أمامه، وبعد أن خذلته القيادة الفلسطينية والطغاة العرب.

التحدّي الأكبر والأهم في هذه اللحظة التاريخية، هو التغلب على غياب الحامل التنظيمي الموحد لهذه الحراكات، القادر على التوجيه وإدارة النضال، بأقل الخسائر وبتحقيق الفائدة القصوى، في ظل واقع فلسطيني مركب، يلعب طرف فيه دور سلطة لحدية.

إن جنين التي تتعرض لعقاب استعماري جماعي هذه الأيام بهدف الحيلولة دون اكتمال نموّ نموج شبيه بنموذج مدينة القدس، الذي يتمدد تدريجيا الى كل فلسطين، تحتاج إلى تضامن شعبي حقيقي وواسع.

#القدس #جنين #باب_العامود