رام الله – خاص قدس الإخبارية: منذ نكبة عام 1948، حاول الاحتلال جاهدًا أن يهوّد العربي الفلسطيني في الداخل المحتل، أو أن يحمله على الرحيل، وكان أبرز محاولاته الأخيرة، إصدار "قانون القومية" عام 2018، الذي يؤكد على يهودية دولة الاحتلال بكل مكوناتها السياسية والاجتماعية والثقافية، في محاولة لطمس الوجود الفلسطيني، إضافة إلى التضييق اليومي الذي تمارسه شرطة الاحتلال ومستوطنيه على الفلسطينيين، ومحاربة أي شكل من أشكال تعبيرهم عن هويتهم الفلسطينية.
ورغم كل هذه المحاولات الممتدة من نصف القرن الماضي، إلا أن الفلسطيني في الداخل المحتل تمسك بقضيته، ودافع عنها، وكان الصوت الحاضر دومًا في مساندة الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، وآخر هذه الأحداث ما تشهده الأراضي المحتلة في هذه الأثناء من هبة شعبية واسعة دعمًا للمسجد الأقصى وأهالي الشيخ جراح المهددين بالإخلاء، والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
شبكة قدس حاورت الكاتب والصحفي من الداخل المحتل ساهر غزاوي، في محاولة لفهم هذه الأحداث، وأهم معانيها وانعكاساتها.
على مدار السنوات الماضية، حاول الاحتلال جاهدًا تغييب الوعي الفلسطيني لدى الفلسطينيين في الداخل المحتل، كيف نجحت الأحداث الأخيرة في هدم هذه المحاولات؟
كخلفية للإجابة على هذا السؤال، بداية لا بد من الإشارة إلى أن العرب الفلسطينيين في الداخل وجدوا أنفسهم بعد قيام الكيان الإسرائيلي عام 1948 على هامش اهتمامات الحركة الوطنية الفلسطينية، وعلى هامش تشكّلاتها الاجتماعية والسياسية، وعلى هامش الأهداف التي وضعتها لنفسها من جهة، ومن جهة أخرى اعتبرتهم "الدولة الإسرائيلية" مواطنين هامشيين ومهمشين من حيث تفضيلات الحكومة وحقوقهم الفردية والحقوق الجماعية كمجموعة تعيش في وطنها تحت ظروف فرضها الاحتلال.
حقيقة أن الأحداث الأخيرة وخاصة فيما يجري في المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح لم تكشف لأي أحد عن الدور المركزي للفلسطينيين في مناطق الـ 48 في صراع الإرادات والعزيمة والتحديات والإصرار على الحق مع الاحتلال الإسرائيلي، إنما أبرزت مركزية ذاك الدور بشكل جلي وواضح جدًا، ويرتبط ذلك بشكل لا يدعو للتأويل بالحراكات الشبابية (خاصة الحراك الفحماوي) التي اشتد عودها وعنفوانها في الشارع الفلسطيني في الداخل التي تمتلك وعيًا نابعًا من انتماء لهوية جماعية وحسابتهم تختلف كليا عن حسابات الأحزاب والتيارات السياسية التي تراجع دورها في العقد الأخير ولا سيما بعد قرار حظر الحركة الإسلامية بقيادة الشيخ رائد صلاح يوم 17/11/2015.
إلى جانب ذلك فهي أيضا محطة بارزة من محطات مسيرة نشاط الوعي السياسي المكثف الذي تشكل مطلع السبعينات من القرن المنصرم والذي تعززت فيه الهوية القومية والدينية للفلسطينيين في الداخل، بعد العزلة والتغييب القسري دام نحو عشرين عامًا (سنوات الحكم العسكري) عن باقي أفراد الشعب الفلسطيني وعن العالم العربي.
أين تكمن أهمية مشاركة الداخل محتل في هذه الهبة، على مستوى دعم القدس، وعلى مستوى محاربة إجراءات الاحتلال في تغييبهم؟
يؤكد أهل الداخل في مناطق الـ 48 في كل حدث وفي كل جولة من هذا الصراع المستمر والذي لن يتوقف إلا أن يزول الاحتلال عن القدس والمسجد الأقصى المباركين، على دورهم المركزي في معركة صراع الإرادات والعزيمة والتحديات والإصرار على الحق مع الاحتلال الإسرائيلي الذي محوره المسجد الأقصى المبارك من خلال إدراكهم، جنبًا إلى جنب مع الأهل في القدس، أن مشاريع الاحتلال ترمي للسيطرة عليه، ومن هذه النقطة يرون أن واجبهم الأول هو النفير والتواجد فيه باستمرار، كونهم من يستطيعون الوصول إليه من الفلسطينيين، حيث تمنع سلطات الاحتلال أهالي الضفة الغربية وقطاع غزة من دخول القدس المحتلة، هذا إلى جانب أن أهل الداخل الفلسطيني لا يعتبرون أنفسهم متضامنين مع قضية محور جولات صراع الإرادات مع الاحتلال (الأقصى)، وإنما هم جزء أصيل من المعركة، بل هم القضية والقضية هم، وقد قدموا في سبيلها التضحيات على مختلف أشكالها عبر مسيرة طويلة من نصرة القدس والأقصى.
هذه المسيرة التي نثرت الحركة الإسلامية بذورها في الثمانينيّات من القرن الماضي ثم رسّختها حينما صوّبت الأنظار نحو الأقصى في عام 1996 في مدينة أم الفحم، من خلال مهرجان “الأقصى في خطر” الذي أعاد اللحمة الشعورية بين القدس والمسجد الأقصى وبين الأمّة الإسلامية والعالم العربي والشعب الفلسطيني، وأتبعت ذلك بمسيرة إعمار المسجد الأقصى وأبرز أعمالها، فتح المصلى المرواني وبواباته الضخمة الخاصة بالمصلى وبناء درج يقود إليها، هذا إلى جانب حافلات “مشروع البيارق” التي راحت تنقل الناس من معظم قُرى ومدن الداخل إلى المسجد الأقصى، بعد أن كانت زيارة الأقصى تكاد تنحصر في رمضان والأعياد والمناسبات، ومع “البيارق” راحت الناس تتدفق إلى القُدس بأعداد هائلة، وكذلك مشاريع الرباط المنظم في المسجد الأقصى مثل مشروع “مصاطب العلم” وغيرها من المشاريع التي واصلت نصرتها للقدس والأقصى على مدار أكثر من عشرين عامًا التي أكدت وما زالت على مركزية دور أهل الداخل في مناطق الـ 48 في نصرة قضية القدس والمسجد الأقصى.
كيف ستنعكس هذه المشاركات الكبيرة والوقفات التي يقوم بها الفلسطينيون في الداخل على ما بعد هذه الأحداث؟
من المؤكد أن رياح هذه الأحداث ستجري بما لا تشتهي سفن الاحتلال الإسرائيلي وستزيد من الالتحام الشعوري حول وحدة القضية والمصير بين كافة أبناء الشعب الفلسطيني في مختلف أمكان تواجده وخاصة بين الفلسطينيين في الداخل والقدس، وقد رأينا في الأيام الأخيرة كيف تجسدت اللحمة الشعورية هذه في الأحداث الأخيرة في الشيخ جراح والمسجد الأقصى وباب العامود التي أدت إلى اشتعال معظم البلدات العربية في الداخل الفلسطيني غضبا على كل يجري في القدس والمسجد الأقصى، والمهم هنا أن هذه الأحداث ستعيد بوصلة المجتمع الفلسطيني في الداخل إلى مكانها الطبيعي وأهمها تعزيز الوعي أن قضايا الفلسطينيين في مناطق ال-48، هي جزء من القضية الفلسطينية ولا يمكن الفصل بينهما، وفي ذات الوقت هذه الأحداث ستضع حدًا لمشاريع الأسرلة والاندماج والتدجين، التي باتت تُسوق في مجتمعنا العربي الفلسطيني تحت مسميات الواقعية والمرونة والحلول الوسط عبر مشاريع وسياسات انبطاحية لبعض الأحزاب العربية المشاركة في الكنيست الإسرائيلي وعبر صناديق الدعم الصهيونية الأمريكية والتي من ورائها ما يسمى "اليسار الصهيوني"، وحتى أيضا شراكة في هذا المشروع مع اليمين الصهيوني المتطرف والتي تهدد مناعة مجتمعنا وحصانته الوطنية وثوابته الإسلامية والعربية والفلسطينية، حتما ستضع لها حدا هذه الاحداث.