ليست هنالك من أولوية في الساحة الفلسطينية تعلو على أولوية مواجهة الاحتلال والاستيطان ودحرهما في شرقي القدس والضفة الغربية؛ لأن كل ما يعالج مع تأجيل هذه الأولوية يظل "تغميساً خارج الصحن"، إلا إذا كان يصب مباشرة وفوراً في مواجهة هذه الأولوية.
إن الخطأ الاستراتيجي الأول الذي ارتكبته قيادة م.ت.ف والمجلس الوطني كان وضع إقامة دولة فلسطينية هدفاً في المناطق التي تحت الاحتلال والاستيطان منذ حزيران/ يونيو 1967، فكان بمنزلة وضع العربة أمام الحصان، أي البحث عن الاعتراف بالدولة، أو السعي لها، من خلال التفاوض أو غيره، قبل تحرير الأرض، فكانت النتيجة عملياً عدم تحرير الأرض، وعدم تحقيق الدولة، لأن تحرير الأرض كان يجب أن يُعطى الأولوية على موضوع الدولة، بل حتى على مجرد وضعه شعاراً بين الشعارات، فهو موضوع خلافي داخلي (في المبدأ وفي التكتيك)، وهو موضوع يأخذك إلى طلب الاعتراف الدولي به، حيث سيطالبونك بأن تحدد حدوداً للدولة فتجد نفسك، ولو بصورة غير مباشرة، أمام "حل الدولتين"، وما كان بك حاجة لتفتح على نفسك أبواباً تهب منها الرياح السموم.
أما لو أنك جعلت الأولوية التي لا تعلو عليها أولوية في النضال العملي الراهن، هي دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات، أي تحرير الأرض، لأبقيت ثوابت القضية أهدافاً لك لا تمس: تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش. وذلك كما حدث، بقصد أو دون قصد، عندما انسحب الاحتلال وفك المستوطنات بلا قيدٍ أو شرط من قطاع غزة، فبقي الهدف الأساسي على الأجندة، وأصبح لديك بعد تحرير الأرض، أن تختار أنسب وضع لك، مثلاً إقامة قاعدة مقاومة محررة، كما حدث فعلاً.
كانت الفرصة سانحة، ولا سيما ما بين 1967 و1970، لأن تترسخ أولوية دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات وبلا قيد أو شرط. وبهذا تتلاقى مع شعار "إزالة آثار العدوان" بعيداً من قرار 242، أو أي تفاوض، أو مساومة.
العالم كله اعتبر الاحتلال الذي حدث في حزيران/ يونيو 1967 غير شرعي، كما اعتبر أي إجراء استيطاني، أو عملية ضم، غير شرعي أيضاً.
هنا كانت الفرصة سانحة، وهذا ما حصل بعد 1967، لتُطلق مقاومة فلسطينية مسلحة تجعل هدفها المباشر دحر الاحتلال، وتحافظ على هدفها الأساسي (تحرير كل فلسطين) على الأجندة.
ولكن ما أن دخلت م.ت.ف في مرحلة السبعينيات بعد نكستها المريرة بالخروج من الأردن، والانتقال إلى لبنان، بدأ الحديث المصحوب بضغوطات شتى لوضع هدف للنضال هو إقامة سلطة وطنية- دولة على الأرض الفلسطينية التي احتلت في حزيران/ يونيو 1967.
من هنا بدأت رحلة جعل هدف الدولة مقدماً عملياً، وممارسة، على هدف مقاومة الاحتلال والاستيطان ودحرهما. أي بدأت رحلة وضع العربة أمام الحصان، أو رحلة عدم وضع الأولوية لمقاومة الاحتلال وتفكيك المستوطنات.
ولعل تجربة اتفاق أوسلو وما تضمنه، وأدى إليه من كارثية، شاهد صارخ على خطأ تقديم هدف الدولة/ الدويلة على هدف تحرير الأرض.
واليوم، ولا سيما بعد الإنجاز الذي تحقق من خلال لقاء الأمناء العامين للفصائل في بيروت ورام الله في 3 أيلول/ سبتمبر 2020، طُرح السؤال: أين موقع الأولوية؟ هل هي للصراع ضد الاحتلال والاستيطان، أم نذهب إلى حل القضايا والتحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني؟ فهنالك "صفقة القرن" ومخططات الضم، واتجاه هرولة التحالف مع ترامب ونتنياهو، والتي مثلها كل من محمد بن زايد وملك البحرين. وهنالك الاحتلال والاستيطان ومحاولات اقتسام الصلاة في المسجد الأقصى، وهنالك طبعاً قضايا الانقسام والمصالحة، وإعادة بناء م.ت.ف، وانتخابات المجلس التشريعي وانتخابات الرئاسة وانتخابات المجلس الوطني.
برز في أثناء اللقاء المذكور، ومن بعده، خطان في مواجهة المطلوب عمله، أحدهما يقول بإعطاء الأولوية لفتح المعركة ضد الاحتلال والاستيطان، وثانيهما يقرّ بها أولوية ولكن إلى جانب أولويات أخرى، كالمصالحة وإعادة بناء م.ت.ف، وإجراء انتخابات للمجلس التشريعي وللرئاسة وللمجلس الوطني.
كان من الواضح من خطاب الرئيس عباس في لقاء الأمناء العامين بأن البقاء في مربع التسوية له الأولوية عنده. والدليل خطابه في هيئة الأمم الذي طالب بعقد مؤتمر دولي لحل الموضوع الفلسطيني، فكان بمثابة صرخة في البرية، لكنه جاء مُطَمئِناً لمن يهمه الأمر بأن محمود عباس ليس بصدد متابعة تعهده بأنه لا يمانع أن تذهب لجنة المقاومة الشعبية حتى الانتفاضة.
أما لقاء وفد فتح مع وفد حماس في إسطنبول، فقد انتهى من دون بيان تفصيلي، ولم تتسرب معلومات عما جرى من حوار، وما هي الأولوية التي ركز عليها. ولكن في 5 تشرين الأول/ أكتوبر 2020 أُعلِنَ أن الرئيس الفلسطيني يُعد لإصدار قرار بإجراء انتخابات للمجلس التشريعي ومن بعده للرئاسة، ثم للمجلس الوطني، الأمر الذي يعني أن مواجهة الاحتلال والاستيطان لم ترتفع إلى مستوى الأولوية، بل دُحرت إلى الخلف لعدة أشهر وأكثر.
إن انتخابات المجلس التشريعي وانتخابات الرئاسة تحتاجان إلى الهدوء في الضفة الغربية، لأن إجراءهما مرهون بموافقة الاحتلال. ومن البدهي أن أي تصعيد لمقاومة شعبية ضد الاحتلال سيعطل إجراء الانتخابات. ولأن الأولوية تُخضِع القضايا الأخرى لها، فأولوية الانتخابات ستُخضع كل ما عداها لها، وإلاّ فَرَط لقاء الأمناء العامين.
إن الانتخابات المقترحة تعني المغالبة، والمغالبة في الوضع الفلسطيني الراهن تعني إعادة إنتاج الانقسام بالضرورة. فمن غير الممكن أن تُسلِّم سلطة رام الله نفسها لحماس والفصائل الفلسطينية الأخرى إن فازوا بالأغلبية، وكذلك حماس وفصائل المقاومة في قطاع غزة لا يسلّمون، وما ينبغي لهم أن يسلموا، قطاع غزة لفتح سلطة رام الله. فأبشر يا احتلال، ويا استيطان، ويا ضم، بالعمر المديد. وانتظروا يا من لم تجعلوا تصعيد المقاومة الشعبية ضد الاحتلال والاستيطان أولويتكم، ماذا سيحدث للآمال التي وضعت على لقاء الأمناء العامين في رام الله وبيروت.
أما إجراء انتخابات بلا مغالبة فيعني اللجوء إلى التوافق على توزيع المقاعد بين الفصائل، ومن ثم تصبح انتخابات محاصصة، الأمر الذي يضعف ما يُراد لها أن تحققه من شرعية للتشريعي وللرئاسة وللمجلس الوطني.
من هنا يمتاز إعطاء الأولوية لمواجهة الاحتلال والاستيطان، حيث التوافق ومقاومة الاحتلال يشكلان الشرعية الثورية.
من هنا أيضاً، فإن معارضة الانتقال إلى أولوية الانتخابات، كما يريد محمود عباس، تشكل الخط السياسي الصحيح في إنقاذ الوحدة الوطنية الفلسطينية، والتأكيد على أولوية المقاومة الشعبية، والصدام مع الاحتلال والاستيطان والضم. وهو ما يجب أن تتفق عليه كل الفصائل، فلا يطمعّن أحد، مما يمكن أن يُعرض عليه من مقاعد في المجلس التشريعي أو المجلس الوطني؛ لأن الوضع الفلسطيني إذا لم يذهب إلى مصادمة الاحتلال بالانتفاضة وبالعصيان المدني وبكل أشكال المقاومة، فإن الفصل الثاني من مسار اوسلو منتظر وراء الباب.