قبل أشهر، شاركتُ في جلسة نقاش بدعوة من مركز "أطلس" للدراسات الإسرائيلية حول ما قام بترجمته من مخرج صادر عن مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي بعنوان "مأزق إسرائيل في غزة". وقد شهدت الجلسة حالة من النقاش العميق حول الدراسة.
وهنا، لا أريد الخوض في تفاصيل المادة المترجمة وفحوى النقاش الساخن الذي جرى خلال الجلسة، نظراً إلى تعدد الاتجاهات السياسية والفكرية للمشاركين، وتنوّع الأجيال بين من هو هرم ومن هو صاعد، بل سأستحضر ما نشرته قبل أيام إحدى الصحف الصهيونية، عندما استعرضت تصريحات آخر 5 وزراء حرب في حكومة العدو الصهيوني حول ردع حركة حماس وفصائل المقاومة، فالمطّلع عليها يعتقد للوهلة الأولى أنها صادرة عن شخصية واحدة في فترة زمنية محدودة.
لكنَّ الحقيقة أنّ العدوّ الصهيوني لم ينجح في ردع المقاومة الفلسطينية، وبات يدرك أنّ ثمن القضاء على المقاومة أعلى بكثير من ثمن التكيّف معها، والتعايش مع تهديداتها، ونمو قوتها العسكرية، والاستجابة للمتطلبات الإنسانية المتعلقة بتخفيف الحصار عن قطاع غزة، بعد تعويله على أنّ بضع سنين من الحصار ستُفقد المقاومة حاضنتها الشعبية وقدرتها على بناء ذاتها، وصولاً إلى انهيارها ورضوخها لمطلبه بتسليم سلاحها.
ولكنَّ المقاومة الفلسطينية نجحت على مدار سنوات متلاحقة من مراكمة قوتها العسكرية وتطوير قدراتها الاستخبارية في تشكيل تهديد حقيقي للعدو الصهيوني، ودفعته دائماً إلى التفكير ملياً في اتخاذ قرارات الحرب، كما نجحت في إدخال كل أشكالها وأدواتها ضمن استراتيجية العمل المقاوم، الَّتي كان آخرها في الأيام الماضية استخدام البالونات الحارقة كأداة من أدوات المقاومة الشعبية. وعلى إثرها، تواصل العدو مع الوسطاء للتوصّل إلى تفاهمات مع المقاومة تساهم في تخفيف الحصار الصهيوني.
وهنا، لا أريد الخوض في تفاصيل التفاهمات وما جرى بوساطة قطريّة، لكون ما يجري هو حالة من الصراع المتواصل بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، والتي تناطح العدو في ظلّ حالة التراجع العربي وهرولة أنظمة رسمية نحو التطبيع. وتهدف المقاومة من خلال التفاهمات هذه إلى تحسين الواقع المعيشي لأهل قطاع غزة، ومراكمته مرة تلو الأخرى، وفي كلّ مرة تنجح في تحقيق مكسب يساهم في تحفيف الحصار.
لكن أودّ العودة إلى جلسة نقاش مركز "أطلس"، حيث كان أحد أوجه الجدال فيها يدور بين طرف يرى أن "إسرائيل" تخطط لسنوات طويلة، وأن انسحابها من قطاع غزة في أيلول/ سبتمبر من العام 2005 كان يخدم استراتيجية ضرورة فصل قطاع غزة عن الوطن الفلسطيني وتقسيم الشعب الفلسطيني، ووجهة نظر أخرى تعتبر أنَّ استراتيجية المقاومة وضربتها الموجعة هي من أجبر العدو على الاندحار والتراجع، وأسقط نظرية شارون الاستيطانية ومقولته المشهورة بأنّ "نتساريم كتل أبيب" (نتساريم مغتصبة صهيونية في وسط قطاع غزة اندحر منها العدو في العام 2005).
قد يكون صحيحاً أنّ العدو يعدّ الخطط والسيناريوهات، ولكن الفعل المقاوم كفيل بدحرها وتغيير استراتيجيته، فهل من الممكن أن يسمح العدو الصهيوني بأن يُحاصَر من جبهتين؛ واحدة في قطاع غزة والأخرى في جنوب لبنان، وقد بات يسعى للتعايش معهما كتهديد قائم، ويبذل قصارى جهده العسكري والاستخباري لمنع تنامي جبهة من سوريا، حتى لا يقع في مأزق غزة ولبنان!
إنّ السّلوك الصّهيونيّ وتخطيطه مرتبط بقدرته على دفع التكلفة الأمنية في مواجهة المقاومة. وقد عمد العدو إلى تغيير عقيدته القتالية بعد عدوان العام 2014 وإدخال مبدأ الدفاع، كما نجحت المقاومة الفلسطينية واللبنانية في إدخال الجبهة الداخلية الصهيونية ضمن أيّ عدوان، فلا يغرّنكم استعراض العدو لمنجزاته التطبيعيّة مع بعض العرب. في النهاية، ستكون الكلمة الفصل لقوى المقاومة ومحورها.