قرأت هذا الخبر: "في عام 2019 وبعد وزارة 'السعادة'.. الإمارات تنشئ وزارة 'اللامستحيل'." عدت إلى رواية جورج أورويل "1984" التي تنبأت بمصير العالم في مجتمع قائم على القمع والاستبداد، تحكمه قوى تتقاسم مساحته وتحول شعوبه إلى أرقام هامشية في حياة بلا مشاعر ولا طموحات ولا قيم، يعملون كالآلات خوفاً من "الأخ الأكبر"، الذي يجمع بالتساوي بين السخف والقبح، وحكمه الشمولي الذي يراقبهم على مدار الساعة ويعرف كل شيء. في الرواية أمثلة على "التضارب الفكري"، والجمع بين نقيضين، و"شرطة الفكر" التي يحرم بها النظام معارضيه من التعبير عن الرفض.
وهناك "وزارة السلم" التي تشن الحرب، و"وزارة الحب" التي جعلها أورويل أكثر الوزارات رعباً وتتخصص في الألم واليأس، وكذلك وزارة "الحق" المنهمكة في مراجعة التاريخ وتعديله ليوافق الظروف الراهنة والتحالفات المتغيرة، وتنتهج "الحديث المختزل" للغة تمحو كلمات وأفكار بعينها. العدو الحقيقي في هذا العالم الديستوبي هو الحقيقة نفسها. فالحق لا يستحق بلا الحقيقة، كما أن الحقيقة والحرية صنوان لا ينفصلان، فالحرية تعني أن تمتلك ذاتك كما الرؤية الحقيقية للعالم. يجهد أمراء الغزو في صناعة الخديعة للتعمية على الواقع، بحيث تصبح رؤية الحقيقة ضرباً من المحال.
اليوم نصطدم بالتطابق المخيف بين رواية أورويل وواقعنا الحالي وزماننا الصعب، إذ اتجهت بوصلة الإمارات على خريطة صفقة القرن نحو أعلى درجات التطبيع.
اليوم نعيش الهلع الحقيقي في المحق التام للذات والثقافة العربية، وهدم قدرة الشعوب على إدراك العالم الفعلي والصواب في مملكات القبائل التي استبدت بها عقدة دونية وثقافة إعاقية مفرغة من أسس عقلانية وأخلاقية وحتى سياسية.
تغطي احتقارها لذاتها الوطنية والقومية في وزارات لاستثمار الخديعة في شبكات إعلامية وثقافية، تستجلب لها نخباً دعائية رخيصة، تهيج الغوغاء من خلال استبدال العدو الحقيقي بعدو وهمي، عن طريق "إدارة الخوف"، كما يوضح ميشال فوكو، عبر آليات الرقابة والوقاية وإجراءات الطوارئ، و"تغذّي الإرهاب الذي تجب محاربته في الداخل، مع المحافظة على علاقات وديّة بدول تمول منظمات إرهابية"، كما يكتب جورجيو أغامبين. تنشر نشوة الاستعلاء والكراهية والرغبة البشعة في الانتقام. تتسابق لتمويل الحروب الأهلية وتكسير المجتمعات والدول، والتعويض عن عقدة النقص الذاتية، بمنح الهبات وصناديق الإغاثة والجوائز الأدبية والحوافز الشخصية.
كما تستثمر البؤس لتحتل قرارات الحكومات بالمال، فتستوعب كفاءات الوافدين سواء كانوا فلسطينيين أو عرباً، بمقايضة الرفاه في مقابل الولاء والتسبيح بحمد السلطان، واستبدال الهوية الأصيلة بأُخرى "شرق أوسطية جديدة" تلائم زمن أبراهام القادم.
ليست المسألة تكتية، بل لها عمقها التاريخي وبعدها الاستراتيجي. ولطالما طاردت عقدة "الخوف" الحلم الصهيوني منذ قيامه، وظل يسعى لحلها عبر العمق الآمن، الأكثر ضماناً من الحدود الآمنة، نحو اختراق العواصم واحتلال الوعي العربي بهدف مطاردة حقيقة فلسطين بحيّزيها المكاني والزماني.
وبحسب فرانز فانون فإن الاستعمار لا يستطيع الهيمنة إن لم يُفلِـح وبسرعة وبمهارةٍ في تمزيق الحياة الثقافية للشعوب. فحصار القضية الفلسطينية من خلال فكفكة الهوية الجمعية بين الخاص والعام، أي الوطني والقومي، بدأ من الخمسينيات مع المساعي الأميركية "الحميدة" لحل عقدتي الخوف والبؤس عبر فكرتي: الأمن للمعتدي والنماء للضحية.
شرطها هو الصلح مع "إسرائيل"، لذلك أول الهيئات التي تشكلت في الخمسينيات كانت "هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل" في إدراك أن موضوعية الصراع لا تقيدها أو تطلقها رغبات الأفراد أو الزعامات، ولا النيات الطيبة أو السيئة؛ إنها دائمة الفعل الجذري في الوجدان الجمعي العربي.
التطبيع قليلهُ مثل كثيرهُ، قبيحٌ ومريبٌ ومدمر! ومن أصغره يتفشى الهبوط السياسي، هكذا تم استدخاله إلى الجسد العربي، وإن كان تدشينه رسمياً جرى مع كامب ديفيد، من خلال " التلاعب بالوعي"، كيف يكون السلام سلاماً إن كان يعني إقامة علاقات طبيعية في واقع وشروط غير طبيعية؟ ولا سيما أن الاعتراف بالاحتلال يصبح إقراراً بحقه في الوجود، وبالقفز عن الجذور والأسباب التاريخية للصراع.
وقد أُنشئت أجهزة ومؤسسات متخصصة حققت اختراقات رسمية كبيرة في كامب ديفيد ووادي عربة، لكن الحدث المفصلي هو أوسلو الذي شكل جسراً للعبور إلى الجسم العربي، بالاتكاء الكلي على الرمزية الفلسطينية إلى مستوى استنفادها وطمسها والاستغناء عنها، حتى وإن كان اتفاقاً موقتاً أو ممزقاً أو تم التحلل منه أو تجاوز مدة صلاحيته، إلاّ إن مضمونه الأمني والاقتصادي والسياسي ساري المفعول ويجري تحويله إلى اتفاق أوسلو عربي تحت مسمى صفقة القرن.
اتفاق " أبراهام" هو حصيلة صفقة بين صناعة الخوف والبؤس وبإدارة "الأخ الأكبر". وترجمته الإماراتية للحل الإقليمي، ملخصه عرب من دون فلسطين. وإدارة الخوف المفتعل يكون بالبنية الإقليمية للأمن الجماعي، كما ورد في الاتفاق وتحت مسمّى "تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي (ميسا)"، عرب الصفقة في خدمة المصالح (الصهيو/أميركية) في المنطقة. ونص الاتفاقية على وضع أجندة استراتيجية للشرق الأوسط، والالتزام المشترك بتعزيز الاستقرار من خلال المشاركة الدبلوماسية، وزيادة التكامل الاقتصادي، والتنسيق الأمني.
الأخطر في الخطوة الإماراتية وما سيلحقها ليس خديعة أنها علقت الضم لأراضٍ في الضفة من دون تحديد هويتها، بل إن عرباً من دون فلسطين تعني "الصّهينة" ودمج الكيان الصهيوني في المنطقة، ووضع الحق بفلسطين على مذبح عرب الردة، وتحويل الحق بالوطن إلى حق بالحجيج، كما نص الاتفاق على أن جميع المسلمين .... يمكن لهم أن يأتوا بسلام لزيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه.
اعتدنا لوم "بلفور" كأصل البلاء، لكن ثمة نسخاً عديدة جعلت من التاريخ يعيد نفسه، فالمشيخات والرجعيات وزعامات ساقطة قايضت وعد الإقرار بشرعيتها في مقابل الاعتراف بوجود الكيان منذ سنة 1948. تتقاطع مع النسخ الحالية حلقة جديدة من مشروع بات يجاهر بعنصريته على قاعدة "نفي النفي"، أي تفكيك الشعب الفلسطيني وتركيب شعب آخر مخترع "ليس قادراً على أن يكون شعباً عادياً"، كما قال أبراهام بورغ في كتابه الشهير "لننتصر على هتلر"، لإن القومية اليهودية في الأساس، وكما يؤكد المؤرخ شلومو ساند، "هي ميثولوجيا جرت فبركتها قبل مئة عام، من أجل تبرير إقامة 'الدولة اليهودية'." من السيطرة على الأرض إلى التنازل عن الحق وصولاً إلى القفز عن الشعب الفلسطيني كهوية وطنية وحق ووجود وصفها غسان كنفاني "كجريمة خلع الفلسطينيين عن قضيتهم، ثم خلع فلسطين من الفلسطينيين ...." ماذا تعني مقولة "فلسطين ليست قضيتنا"؟ تعني أن فلسطين لم تعد قضية العرب حتى لا تظل "إسرائيل" هي عدو العرب! ومن يبدأ بمقولة "إسرائيل" ليست عدونا، ثم جارنا أوشريكنا، سينتهي إلى "إسرائيل" حليفنا!
الإدارة المعاكسة، التطبيع هو احتلال مدني يستهدف الهوية العربية، ويوسع ويعمق دائرة الصراع نحو اشتباك تاريخي مجتمعي شامل يطال المجتمع المدني والأكاديميين والمثقفين والساسة كفاعلين في هذه العملية النضالية الإنسانية والأخلاقية، والمقاومة العربية الشاملة، لحماية الذات والوعي والذاكرة كبديل لثقافة الانبطاح والهزيمة. إدارة الخوف بشكل معاكس تستلزم توجس نسبة الخطر على الوجود، كقوة الدفع الأساسية والموضوعية المسببة للصراع التاريخي، وإعادة الاعتبار للمشروع الوطني التحرري ببعديه العربي والإنساني من نقطة استثمار كل عناصر القوة ومغادرة نقاط الضعف والتآكل والعجز والانقسامات والحروب الداخلية التي طالت الوطنية الفلسطينية كما الجسم العربي برمته. فلسطين هي المبتدأ والخبر. نصونها بالانسحاب الشامل من الأوهام اللامتناهية والتجارب الفاشلة، واستعادة الثقة بالذات الوطنية ثم العربية والأممية، ولا مناص من جبهة مقاومة شاملة فلسطينية جدية موحدة، كحق مشروع في مقاومة الاحتلال والدفاع عن النفس وتحرير الأرض وصون الهوية والكرامة.
أورويل وبطله وينستون سميث الذي يحاول التواري بعيداً عن منظومة الأخ الكبير بكتابة يوميات يحكي من خلالها رؤيته الخاصة لما يراه في نفسه وفي عالمه الداخلي. في وزارة "اللامستحيل" الإماراتية، سيجد وينستون سميث نفسه معاقباً على امتلاك الوعي والعيش بمبادئ والقتال في سبيل الحق، فيجبر على قول الخطأ والإقرار بأن "اثنين زائد اثنين يساوي خمسة"، بعد أن وجد أنهم قادرون حقاً على "الدخول إلى داخله، وأن شيئاً في أحشائه قد مات واحترق وبتر بترا." وفي وجه اتفاق أبراهام، علينا السعي لفهم العالم وفقاً لما هو عليه فعلاً لا كما يود لنا أن نراه. أن نقاوم من يجبرنا على قول الخطأ ويسوق الكذب والخديعة. أن نقول الحق ولا نصمت عنه، لأن اثنين واثنين يساويان أربعة، لا ثلاثة ولا خمسة. الحقيقة لن تسقط، وإسقاط فلسطين لن يحمي أحد، بل سيسقط الجميع. وكما قال جورج حبش : "لا نستطيع أن نضمن مستقبل أجيالنا في حالة بقاء جرثومة الصهيونية على الأرض العربية."
المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية