نابلس- خاص قُدس الإخبارية: في أزقة البلدة القديمة بنابلس، تحديداً في حي الياسمينة بالقرب من عين العسل، تشدو رائحة هناك، رائحة ممزوجة بماضي المكان، المكان الذي ضجّ بتاريخ المماليك، وما زال يحمل بين زواياه المتناثرة والمندثرة إرث حضارة مرّت عليه، وكأنني بالشاهد إذ يمر من هناك فيلمح ناراً متقدة، أو سيفًا يُشحذ، أو عباءة تُحاك وحصيرة تُنسج، فيصحو فجأة فإذا بذاك الجامع "جامع الخضراء"، يتداعى، وتتهاوى أطرافه ويدنو من نهايته، حاله كحال كثير من معالمنا وآثارنا في بلادنا الحبيبة فلسطين، حيث لا شيء يأخذ حقّه بالبقاء وليس الإنسان فقط.
لنعد قليلاً لأصل هذا الجامع، فأغلب المصادر التاريخية تذكر أنه أقيم على كنيس للسامريين اسمه "كنيس الحضرة" وقد سمي بذلك نسبة لحضرة سيدنا يعقوب (عليه السلام) حيث كان يتعبد هناك، وما زال هذا الموقع موجوداً بجوار المسجد ويطلق عليه "غار حزن يعقوب"، أو "خلوة المحزون"، ويعود تاريخ بناء هذا الكنيس بشكل تقريبي للقرن الخامس الميلادي وقد بناه كاهن السومريون آنذاك "إقبن".
أما تسميته بالخضراء فالرواية الأقرب للعقل أنه سمي بناءً على طبيعة المنطقة المحيطة به؛ حيث تكثر الأشجار، والمزروعات والمياه الوفيرة، أما الرواية الأخرى فهي تميل إلى الأسطورة أكثر.
ويقول السومريون إن المسلمين قد هدموا الكنيس أيام الخليفة العباسي المعتصم وحولوه إلى جامع؛ وذلك _كما ذكرت بعض المصادر_ لعدم استقرار أحوال الطائفة السومرية، بالإضافة إلى تراجع في أعدادهم، لكن حاله مع المسلمين لم يدم طويلاً إذ عاد لملكية السامريين وذلك بفترة الحكم الفاطمي؛ حيث لاقى السومريون المعاملة الحسنة منهم، ثم ما لبثت ملكيته تعود للمسلمين ليحولوه إلى جامع، ويبدو أنه كان يلفت أنظار كل من يأتي للبلاد فاتحاً كان أو محتلاً.
ففي فترة السيطرة الفرنجية على البلاد استولوا عليه وحولوه إلى كنيسة صليبية وذلك ضمن سياسة التنصير الإجباري التي اتبعوها، واستمر حاله هذا حتى حرر أهل البلاد هذه البقعة من الصليبيين وأعادوا عليه الصبغة الإسلامية. لكن الكوارث الطبيعية والزلازل لا تعرف أثناء اجتياحها للبلاد بيتاً أو معلماً أثرياً ففي عام(597هـ/1201م) ضرب زلزالٌ البلاد وهدم المدينة وبالطبع لم يسلم المسجد من الآثار السلبية التي لحقت به ولا بالحالة المعمارية له، مما دفع السلطان قلاوون لتعميره آنذاك ونقش على مدخله نقشاً ما زال موجوداً وفيه ما يلي: "عُمِّرَ هذا المسجد أيام السلطان المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي أعزه الله ببقاء ولده السلطان الصالح علاء الدين".
أما بالفترة العثمانية فقد اقتصر ذكر هذا الجامع من خلال الرحالة الذين زاروه ودونوا مشاهداتهم له، حيث ذكره الرحالة عبد الغني النابلسي بقوله نقلًا عن العامة إن المسجد كان بيتاً ليعقوب (عليه السلام)، ويشيرون إلى مغارة فيه يقولون أنه ولد فيها".
أما ذكر النابلسي للمسجد فجاء كما يلي: "هو جامع قديم في بنايته، منهدم الجوانب والأركان، وفيه بركة ماء، وتحيط به البساتين والأزهار"، وتجدر الإشارة إلى أن رحلة النابلسي كانت في سنة (1101هـ/ 1690م). أما رحلة اللقيمي لهذه البقعة والتي جاءت بعد رحلة النابلسي بحوالي 42 سنة لم يذكر كثيراً عن الجامع واكتفى بذكر أن فيها مكاناً يقال له "خلوة المحزون".
كما أن هناك رحالة من أصل تركي ذكر هذا الجامع هو أوليا جلبي، والذي ذكر: "أن هذا الجامع عبارة عن بناية مربعة الشكل، طول ضلعها سبع وثمانون خطوة".
وبفترة الانتداب البريطاني تحول إلى زاوية صوفية، ومزاراً عُرف حينها بمقام "ستنا الخضرا" وكان يُزار في يوم عاشوراء، كما ووضعت على جدرانه الأدوات الموسيقية للدراويش، وسادت معتقدات أن حجاباً من خادم المزار يشفي من العقم.
وفي عام 1940م، تعرّض مرة أخرى لزلزال، وتهدم جزءٌ منه وأعيد ترميمه، ورغم ذلك فإن الصلاة فيه كانت غير منتظمة، ولا تقام فيه صلاة الجماعة إلا عندما يؤمّه الزائرون، وعانى كثيراً من الإهمال والخراب.
وتحوّل في نكبة 1948م إلى مأوى لللاجئين الفلسطينيين والذين سكنوه لفترة طويلة نوعاً ما، وقدمت طلبات عدة منذ ذلك الحين لترميمه، حتى وافقت أخيراً إدارة الأوقاف على تعميره وتم ذلك عام 1975م، وتعيين إمام للجامع.
أما حاله اليوم فهو متوسط لبساتين خضراء، في صحنه الخارجي توجد بركة ماء، وفيه أيضاً محراب جميل، ومساحة الصلاة المخصصة فيه تبلغ 300 متر ومئذنته مربعة الشكل بنيت على الطراز المغربي، لكن التعديات الإسرائيلية لم تتركه على هذا الحال فقد حاولت "إسرائيل" منذ احتلالها الضفة عام 1967م السيطرة على جامع الخضراء إلا أنها تراجعت -ربما لوقوعه في البلدة القديمة ذات الكثافة السكانية- لكن ذلك لم يمنعنهم لفترة طويلة، بل بدأت الاقتحامات والزيارات من قبل الاحتلال تتزايد وذلك بعام 1980م؛ لتوجيه رسالة للفلسطينيين أن هذا المكان مقدس لليهود، وأيضاً في سبيل السيطرة عليه.
كما قامت شركات سياحية إسرائيلية بتنظيم رحلات سياحية لزيارة "غار حزن يعقوب " وذلك بعام 1975م، وبالتأكيد لم تقف تعديات الاحتلال عند هذا الحد بل قاموا بحفريات أثرية فيه بتاريخ 1985م والتي استمرت سنتين تقريباً، وفي عام 2002م عند اجتياح مدينة نابلس قُصف المعلم الأثري بالمدفعية، وعملت الجرافات الإسرائيلية على هدم أجزاء منه في محاولة منها لمحو تاريخ إسلامي شيَد بفترة ذهبية من تاريخنا، دون أن يكترثوا لقدسية المكان.
وبعد الانسحاب الاسرائيلي قام أهالي الحي بتعميره على نفقتهم الخاصة، إلا أن التعمير وللأسف لم يراعِ الطابع التاريخي ولا الأثري، بل وشوّه طابع المكان؛ وذلك لعدم امتلاك فريق التعمير للخبرة اللازمة في هذا المجال فغابت ملامح التاريخ عنه، وغدا بلا وثيقة تاريخية تنصفه أو تعطيه قدره الكافي من العراقة.
المصادر:
- خليل عثامنة، فلسطين في خمسة قرون.
- عبد الرحمن المغربي، جامع الخضـراء وأوقافه في مدينة نابلس من الفترة المملوكية وحتى وقتنا الحاضر، 2008م.
- توفيق كنعان، الأولياء والمزارات الإسلامية في فلسطين، 1998م.
- مصطفى مراد الدباغ، بلادنا فلسطين، القسم 2، جزء 2، 1991م.