شبكة قدس الإخبارية

الحراك السياسي الفلسطيني في ألمانيا- تأملات مغتربة

ميساء أحمد

مرحبا.. نحن في ألمانيا.. من الآن فصاعدا سيختلف كل شيء في نظرك عن كل شيء كنت قد عرفته سابقا، نعم كل شيء فيما عدا الجالية العربية، وتحديدا الفلسطينيون منهم. سوف تتساءل بالتأكيد عن قصة محال بيع "الحلال" التي تجاور بعضها على مسافة أمتار معدودة، وكأن المدن الألمانية بشسوعها وأطرافها المترامية قد ضاقت على أصحابها فجأة، ليس فقط محال بيع "الحلال" على فكرة، بل المساجد، الملتقى الرئيسي للمسلمين هناك، والتجمع ربما الوحيد لحفظ هوية الأبناء، كل مسجدين اثنين في شارع واحد، والانقسام مرشّح لأن يتضاعف. انتهينا؟ لا.. ليس بعد.. الجمعيات المهتمة بالقضية الفلسطينية، والتي في الغالب غير متواجدة على الأرض، فانك ستجد كل زوجين اثنين قد سجّلا جمعية جديدة باسمهما.. والعدد أيضا في ازدياد..

ما أقصى قدرة ما يفعله الفلسطينيون هنا لنصرة القضية؟ الخروج في مظاهرة من المحطة المركزية من كل بلد كلّما قصفت اسرائيل غزّة. حتى أنهم سيشعرون بالملل اذا ما توقفت اسرائيل لبرهة عن الاعتداء الظاهر، على اعتبار أن فعل الاحتلال لم يتوقف في يوم أبدا. اذا نحن في حقيقة الأمر لا زلنا نقبع في بلادنا بحضور العنصرين الأبرز: "الانقسام" والعقلية المنقسمة التي تفتقد حتى الآن القدرة على العمل الجماعي المؤسساتي الديمقراطي، وافتقاد الخطة والمبادرة الى الفعل.. كالعادة نحن مجرّد رد فعل. كان احتكاكي بهذا المجتمع محدودا جدا في حقيقة الأمر، في البدء كان حالة من جس النبض، وبقي على ذلك حتى النهاية. لم أفلح في المشاركة أو العطاء أو التأثير، شعرت في الملل حالا أو لنقل اليأس، لافتراضك المسبق أنه هناك تأثرا ولو بسيطا بالعقلية الألمانية من خلال الاختلاط بها، لكن لا شيء من ذلك في الحقيقة يحدث. كنت أعتقد أن رافعة الأمل الوحيدة المتبقية هي أن يستلم الجيل الجديد الذي عاش في ألمانيا زمام الأمور. لست معنية في حقيقة الأمر أن  أنشر ريح التحبيط في الأجواء، الا أن شيء من هذا الاعتقاد كان قد تبدد لدي في آخر مشاركة لي لما يعرف بملتقى فلسطينيي أوروبا. لم يخب ظني طيلة طريقنا الى الملتقى في الحافلة عندما استلم مكبّر الصوت شيخ مهاجر من مصر مقيم في ألمانيا وبدأ يشرح لنا عن "الأخوة في الاسلام" ومسابقة حزازير عن أسماء الصحابة، بينما نحن في طريقنا للتأكيد على حق العودة، ولم يخب مرة أخرى عندما استلم المكبر شيخ فلسطيني من غزة، عندما أخذ يفسّر السياسة بآيات قرآنية، في قوله أن اسرائيل تعتمد على أمريكا وتتخذ من دون الله وكيلا. هكذا بقدرة قادر استطاع الشيخ شطب كل ما قد يتطلب حقيقة من الفلسطينيين فعله في مجال تطوير البحث في العلاقات الدولية ومراكز الأبحاث المتعلقة بالمصالح الدولية..الخ. مما له علاقة بالأخذ بالأسباب..وحوّلها بجملتين الى قضية هلامية تعيش في الفراغ. كان هذا الظن خيرا الأخير في ذلك الجيل الذي تربى وعاش في ألمانيا عندما التقيته واستطلعته ليتحدث عن قضايا الوطن اما ساخرا واما كفورا، بمعنى يبدي شيئا من الاستكبار تجاه ما يعتبره من المظاهر المتخلفة في وطنه بدلا من أن يتبنى قضيته ويكون رافعته، كان ذلك عندما تحدثت احدى الفتيات الفلسطينيات عن المكتبة التي زارتها في غزة كيف أنها لا ترتقي الى المستوى المطلوب أو المعهود بالنسبة لما اعتادته في ألمانيا، لا يضير في ذلك شيئا في حقيقة الأمر سوى لهجة الاستعلاء والتحدث بضمير "هم" وليس بضمير "نحن"! تقول لي احدى الفتيات الأخريات وهي فلسطينية من الضفة تدرس الطب وترعرعت في ألمانيا، أن ألمانيا بالنسبة لها هي الوطن ووالديها والمسجد كانا قد ركزا أساسا على قضية كونها مسلمة، فتنتبه بألا تقترب من المحظورات، لكن لا تنبيه على الوطن المسلوب، أو في مفاهيم الاسلام على اعتبار أنهم مسلمون ألمان "الوقف" المسروق. مما يؤكد لي ما رجحته في مسألة المبالغة بالانشغال بما يعرف ب-"تحسين صورة الاسلام" في الغرب، حيث نجح الاعلام الألماني الذي لا يكف عن همزة ولمزه بالمسلمين في حشر شبابه في زاوية الدفاع عن النفس طوال الوقت،  بدلا من الانشغال في القضايا الأهم والأكثر الحاحا. طبعا لا أعتقد أن أحدا سيتفاجأ ان قلت أن الملتقى (ملتقى الفلسطينيين في أوربا) في غالبه أناشيد ودبكة، هذه معهودة حتى في بلادنا.. وبيع بالجملة والمفرق للشعارات والصراخ حتى مع مكبّر الصوت، واختصرت قضية المظالم الأولى الى كلام في كلام. ولكن فيما أعتبره المسمار الأخير في نعش الأمل بالنسبة لي للحركة الفلسطينية في الخارج هو تلك الفتاة التي لم تتجاوز الاثني عشر ربيعا عندما صعدت المنصة وأخذت تلقي الشعر المجلجل حاملة مفتاح العودة، وتقسم أنها ستسلمه الى أحفادها من بعدها، في اشارة جليّة وصلفة بنظري على أن هؤلاء الناس أنفسهم قد فقدوا الأمل بالعودة فعليا الى بيوتهم وأرضهم، وحولوا فلسطين وحق العودة اليها لمجرد كليشييه، تتناقلة الألسنة عبثا! ما الذي يمنع طفلة في هذا الجيل أن تعتقد أنها الحلقة الأخيرة في سلسلة تسليم المفتاح هذا وأنها هي من ستفتح باب البيت أخيرا؟! محزن!