فلسطين تلك الأغنية الجميلة، أو القصيدة الشعرية المعبقة بالمشاعر الدافئة، تلك الترانيم التي كبرت على أنغامها الأجيال، ليست ذاتها على أرض الواقع، وليست ذاتها في كل الأماكن والمواقع، فلسطين عند العديد من الحكومات في السر غير التي في العلن.
فلسطين هي بالنسبة للكثيرين صورة يُعتز بها ويُفتخر بها، لتعزيز المكانة والحضور، وهي الملجأ الأخير لبعض من أرادوا تسويق أنفسهم، وإعطاء مشروعية لأعمالهم، هناك من يمنحها فعلا شيئا قليلا أو كثيرا من الوقت أو المال أو الجهد، فمن حقه أن ينتسب لها، وهناك من هو هي، ومن هي هو، لأنه نذر نفسه لأجلها.
من الأبجديات أن فلسطين ليست حكرا على أحد، هي قضية أمة، إلا أن هذه تبقى كلمات ما لم تحرر من الشعارات، وتنزل على أرض الواقع، وما لم تخرج من جداول المؤتمرات إلى ميادين العمل والعطاء.
كل الجهود مطلوبة، لكن فلسطين اليوم لا يريدون لها أن تبقى حتى في الصورة، ويحاولون هز تلك الصورة بأساليب مختلفة، إلا أنها لا محالة تبقى في الوجدان والشعور، وإن ضعف أو قلّ من حين إلى حين، وسرعان ما يعود لها الوهج في كل ميدان تخرج فيه الشعوب، أو تعبر من خلاله عن إرادتها الحرة، كما جرى في تونس، وفي كل ميادين الحرية.
فلسطين يجب أن تخرج من البراويز إلى العمل، إلى الأرض، يجب أن تكون اللوبي الأقوى المؤثر على توجهات الشعوب والدول، لا أن تكون أداة بعض حكومات لتحقيق مآربها ومصالحها، دونما أثر حقيقي يغير من أوضاع فلسطين أو الظروف المعيشية لأهلها.
من الواضح أن حضور فلسطين والتعاطف مع أهلها يرتبط ارتباطا وثيقا بحجم اشتعال الأوضاع داخلها، وحجم الحراكات والانتفاضات التي يقودها شعبها ضد عدوان الاحتلال، وكلما تراجعت نسبتها أمام البطش الصهيوني الغاشم تراجع الاهتمام والتفاعل العربي والعالمي.
رغم أن الفترة ما بعد الحروب والحراكات تتطلب اهتماما وعناية أكبر لمعالجة الآثار الناتجة عن المواجهات والعدوان، ولعل حال الأسرى والجرحى وعوائلهم مع عوائل الشهداء أبرز مثال على حالة من الإهمال والتغافل والتجاهل والتآمر التي تعيشها القضية الفلسطينية. فجزء كبير منهم بدون مخصصات مالية، أو علاج منذ سنوات طويلة، وبلا أدنى رعاية صحية، ومحاربون في قوت أطفالهم لدرجة التجويع في الكثير من الأحيان، وهم الذين تحملوا الفاتورة الأكبر نيابة عن الأمة وليس فقط شعب.
إن حصر المواجهة والتكلفة بأهل فلسطين والإبقاء فقط على حالة تعاطف مجردة معهم دونما إسناد حقيقي هو من وجوه الخذلان، في حين أن الاحتلال مدعوم من كل اليهود الصهاينة في العالم، ومن الصهاينة وحكومات غربية في مقدمتها الدولة الأقوى في العالم.
لا شك أن ميزان القوة لصالح الاحتلال، وإن كان الحق كله مع الفلسطينيين إلا أن الحق وحده لا يمكن أن يحرر الأرض إن لم تصحبه القوة بأشكالها كافة، هي الحقيقة التي تشبه الشمس، لكن التعامل معها يشبه شموع غزة اليتيمة في وجه الحصار والعزلة إلا قليلا.