الرصاص والضربات والطعنات التي نكيلها لبعضنا، وأيدينا التي تمزق أرواحنا قبل أجسادنا، هي مجرد انعكاس للعنف الهائل الذي يسلطه علينا الاحتلال، والاتجاه العقلاني الوحيد لتصدير هذا العنف هو في وجه هذا المحتل وتجاه مصالحه ووجوده الاستعماري.
وكل تلك المناورات اللفظية الرامية للتهرب من الحقيقة البسيطة الواضحة، بكون العنف ضرورة وجودية في حالة ضحايا هذا النوع من القمع والسلوك الإبادي الشامل، ما هي إلا تخزين للمشكلة باسم الأنسنة، فيما هي محض محاولة لتجريدنا من إنسانيتنا وتحويلنا لأبدان خاضعة، لا تثور ولا تغضب إذا ما تسلط عليها العنف في كل تفصيل من حياتها.
نتلقى العنف والقهر والذبح، فنبادله بتعديل هويتنا، نتلقى مزيد من العنف والقهر الاحتلالي فنبادله بمزيد من الخضوع والامتثال، يقتلوننا أكثر فنختار تبني خطاب الهزيمة أكثر، يذبحوننا في الطرقات، فتعلن نخبنا السياسية أن علينا أن ننسى من نحن، أن تنسى حيفا غزة، وتنفي رفح علاقتها بصفد، ونتبارى في الإذعان ونتسابق في البحث عن حلول خاصة تمنح العيش الذليل لبضعة أنفار في رام الله، أو جماعة في قرية بالجليل.. فما نتيجة هذا كله؟ سننتج مجتمع من الفرسان الرحيمين الأوفياء للعدل والحق المنحازين للضعفاء والمساكين؟ النتيجة هي ما بين أيديكم وهي نتيجة سياسية بامتياز.
إن الخطاب الذي يتهم السلاح تارة ويتهم الموروث الشعبي القيمي وكأن أي منهما صنيعة ذاته أو يأتي من فراغ أو يدور فعله في فراغ، هو مجرد أداة لإعفاء الاحتلال من مسؤوليته،عن كل هذا العنف، والأسوأ من ذلك مطالبة الاحتلال المصدر الأول لهذا العنف، أو شرطته الأداة التنفيذية المباشرة لضخ العنف، بحماية مجتمعنا من هذا العنف.
قبول الخضوع للمنظومة الصهيونية، والاندماج فيها كأفراد مهزومين خاضعين، أو جماعات صغرى تبحث عن ممثل لها في الكنيست يلقي لها بعض من فتات يلقيه له الصهاينة، ما هو إلا استثمار في تعنيف ذاتنا، وجلدها لتصبح أكثر انصياعًا وركوعًا أمام المنظومة الصهيونية وأكثر سعارًا وعنفًا تجاه محيطها الأكثر ضعفًا وتهميشًا وهشاشةً.. تجاه الجار والمرأة والطفل والأخت والزوجة والفقير والمريض، هذا الخضوع يحولنا لمجرمين قتلة، مهووسين بالذات والقبيلة والفخر والكذب والعرض والشرف المعلق بغشاء بكارة.
مقاربة سؤال العنف في المجتمع الفلسطيني، إجابته واضحة منذ اللحظة الأولى لوجود هذا المشروع الاستعماري على أرضنا، ليتلقى هذا العنف مصدره ومسببه، الاحتلال، وما يرد هذا العنف لصدورنا هو استمرار النخب السياسية في محاولتها لإخضاعنا أمام المحتل وقمعه وعنفه، بخطاب المواطنة في حالة أهلنا في الـ٤٨ أو بممارسة التنسيق الأمني في حالة الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧.
إن الهجوم الشرس الذي تقوم به النخب السياسية المهترئة على جانبي الخط الأخضر، ضد الأمل في مواجهة الاحتلال، وضد الإنتماء الجمعي الموحد لقضية وطنية كبرى بالإصرار على قبول التقسيم والقهر وسياسات المعازل، ما هو إلا تغذية ليأس مؤذي لن ينتج إلا انفجارات داخلية، وصناعة لهزيمة عامة لكل ما يجمع شعبنا ويوحده ويمنحه الأمل والقدرة على الصمود والتوازن والعمل، هذه السياسات التي تتبناها النخب السياسية ما هي إلا دعوة للانتحار، وما العنف الداخلي الأحمق إلا تلبية مخلصة لهذه الدعوة، بانحياز للذوات الفردية داخل الجماعات المقسمة مناطقيًا أو قبليًا على حساب هويتنا الوطنية وشعورنا الجمعي بوحدة قضيتنا ومعاناتنا ووحدة طريق خلاصنا.
في هذه الجماعات والأطر التقسيمية التي يريد منا هؤلاء الساسة تعريف أنفسنا بها، وبخلفية من هذا الخطاب المهزوم واليائس، يظهر أسوأ ما فينا، وتنقسم الجماعات الصغرى المهزومة لذوات أكثر يأسًا وأكثر ذعرًا وتوحشًا، وتنحاز إلى أقسى وأقذر النزعات أنانية وكراهية للذات.
خلاصنا هو تذكر ذاتنا الجمعية، ليس كفلسيطينين فحسب، ولكن كمضطهدين ومهمشين ومقموعين نتلقى عنف الجلادين ومنظومات القهر في هذا العالم، ونعرف واجبنا ووجودنا وهويتنا من خلال مواجهته وردعه وعبر سعينا الجمعي للخلاص منه.