من باب الزاوية حتى الحرم الإبراهيمي، هذه هي الخليل لمن يجيء سائحاً، ومن عين سارة حتى دوار المنارة لمن يجيء متبضّعاً، ومن رأس الجورة حتى باب الزاوية للخلايلة أنفسهم.
يحاول الإنسان نسيان ما يُعكّر صفو حياته من تفاصيلَ صغيرةٍ حتّى حاجزٍ مركونٍ في جهةٍ لا ننظر إليها في باب الزاوية، شوتير أو 56؛ الحاجز الذي من خلفه الخليل التي يحفظُها أجدادنا بصورةٍ أجمل ممّا هي عليه اليوم، وأبعد ما تكون عن واقعها الحالي.
خلف الحاجز -الذي يشكّل نقطةَ اشتباكٍ- بلادٌ أخرى، تل رميدة. سكانها الذين يدخلون بهُوياتٍ مرقّمةٍ عبر شارع الشهداء الواصل بين جُزأي البلد والمغلق منذ 1994، [1] باتوا مُرغَمين على مواصلة حياتهم تحت وطأة الوجود الاستيطاني الثقيل الذي يتغلغل في كافة تفاصيل حياتهم اليومية. لا أقصد أنّ عيشهم هذا كما نتصوّره عن فلسطينيي القدس مثلاً، بل إنّ بطاقة الهوية خاصّتهم خضراء مرقمّة، يُسمَح لهم بالدخول والخروج في ساعاتٍ معينةٍ، وضمن ساعاتٍ محددةٍ.
أكثرُ المشاهد العالقة في ذهني من تل رميدة هو ذاك المشهد لعلَمين متجاورين على منزلين ملتصقين ببعضهما. الأول فلسطينيٌّ والآخر إسرائيليٌّ، ثمّ مشهد الحاجّ مفيد الشرباتي وهو يحكي قصص الشهداء الذين كان شاهداً عليهم، برفقة زوجته التي حاول جنود الحاجز أن يضعوا السكّين في حقيبتها أثناء تفتيشها. كما تلمع في ذهني صورةُ عماد أبو شمسية الذي جنّد أطفاله بالكاميرات لكلّ "عمليةٍ" تتمّ هناك، منها استشهاد عبد الفتاح الشريف، الذي يظهر في فيديوهاتهم لا يحمل شيئاً، عكس ما انتُشر طبعاً!
أمّا عن حارة غيث والسلايمة، فهي حارةٌ تعيسةٌ أخرى، هل تستطيع تخيُّل أن دخولك منزلك قد يكلّفك تفتيشاً في كلّ مرةٍ؟! تُحاط الحارة بسياجٍ يجعلها أقرب إلى قفصٍ من حارةٍ شعبيةٍ لها سماتها الحيوية والأصيلة، مع بوابةٍ وحيدةٍ يعلوها جرسُ إنذارٍ يُطلق صوته لكلّ حركةٍ في البوابة؛ أيّ لكلّ دخولٍ وخروجٍ منها، مع قوانين تُلزم السكان بالتزام بيوتهم بعد العاشرة مساءً، وأحياناً قبل ذلك إن أراد الجنديُّ اللعب. لا تنسَ أنّ مزاج الجندي مهمٌّ، فإذا أراد اليوم مثلاً أن يمنع الأطفال من الذهاب إلى المدرسة، فيمكنه ذلك، هل هناك ما يمنعه؟ بالطبع لا!
قصُّ "الشيك" أحدُ هوايات الأطفال هناك، كما أنّ الحالات الطارئة غير المأخوذة بالاعتبار لها ناسُها، أقصد ثمّة من يبتدعُ لها الحلول. وللأطفال مزاجهم أيضاً؛ فلا يتوقف الأطفال عن لعبهم أمام الحاجز أبداً، في ذلك يخدمنا "العقل الخليلي" اليابس، أدامه الله علينا من نعمةٍ.
أمّا الحرم الإبراهيميّ، فهو مقسّمٌ بالطبع، كما هي المدينة، وكما هي البلاد بطبيعة الحال. استمرَرْتُ في الذهاب لسنواتٍ إلى المنطقة، حتّى أدركتُ المدخل الرئيسي للحرم الإبراهيمي، إذ إنّ المدخل الذي رأيته في كتب التربية الوطنية والتي اعتقدتُ أنها غشّتني، بات مدخلاً للقسم الذي استولى عليه الصهاينة بعد المجزرة عام 1994، وهو أقربُ إلى حارة غيث والسلايمة المنسيّة، ما يعني أن البلاد "انزاحت"، ليتوقف الفلسطينيّ عند ما سمحوا له من الحرم، يأتي يصلي ويخرج، لا يهمّ من أين، لا يهمّ إن كان في مساحةٍ صغيرةٍ، لا يهمّ إن كان يصلي ومن خلفه بوابةٌ فقط تفصله عن عدوّه، ولا يهمّ إن شرعَ في قراءة الفاتحة أمام مقام سيدنا إبراهيم، مُبصِراً عدوَّه من شباكٍ آخر للمقام يفعلُ الأمر عينه بطريقته، لا يهمّ كلّ هذا إن كان الإيمان كفّاه ليصلي.
بعد الحاجز الرئيسي بأمتارٍ قليلةٍ، حاجزان آخران لكلِّ اتجاهٍ يمكن أن تسلكه، أولهما للتفتيش يساراً إن أردتَ دخول الحرم الإبراهيمي، والثاني إن أردتَ إكمال طريقك.. بعد الحاجز الثاني محلُّ العم أبو محمد، وإلى جانبه يساراً محلّ صنع الفخار الخليلي على آلة لفٍّ قديمةٍ، وهما آخرُ محلّين في هذا الاتجاه. ما بعدهما ما نسمّيه "الجنة"، وهو مصطلحٌ أطلقه سكان المنطقة في إشارةٍ إلى أن "الداخل فيه ليس بخارجٍ"، فهو جنةٌ إذن، والاستمرار فيه يوصِلنا إلى "الالتفافي" من طرف المدينة الآخر.
جلسةٌ مقابل الحاجز أمام الجنود وعلى عينهم "تسوى الدنيا". العقل الخليلي مرّةً أخرى، صاحب قاعدة "جكر مش حُب". يلعب الأطفال بالكرة، مستوطنون يتمشّون، جنديٌّ "يبجُل" الكرة، [2] أطفالٌ يستمرّون في تغيير اللعبة: جيشٌ وعربٌ، سيارة مستوطنٍ مسرعةٌ، آباء وجِلون يرقُبون، الجارُ يطلب منّا ألّا نغنّي لأن استراحة المستوطنين المقابلة تردّ الصاعَ صاعيْن، وهكذا …
عرفتُ البلاد من هذه الجلسات، وأصبحت البلاد تعني لي منها أيضاً، قصص الأشخاص المختلفين، الزوّار، السيّاح، والساكنين في مناطقَ مجاورةٍ، كلّ أولئك شكّلوا لديّ النظرة أننا كخلايلة "مضحوكٌ" علينا بالخليل "الفوقا"؛ كأنها نصيب"الترضية" لنحشُر أنفسنا فيها بعيداً عن الخليل الحقيقية.
كما تعلّقت قصص الجدّات عن المدينة بهذه المناطق: خُزْق الفار "سوق الخضار"، الكارنتينا، السهلة، الحارة التحتا، وشارع الشهداء بالطبع.
الاستمرار في المشي غير ممكنٍ؛ أينما استدرتَ، سترى من يمنعك. الجنود المنتشرون على الحواجز في المنطقة يستطيعون ثنيك عن ذلك، أو إخافتك، أو حتّى تهديدك إن "ركبت عقلك"، أربعةُ حواجزَ رئيسيةٍ محيطةٍ وأكثر من 20 تتخلّل المناطق المتجاورة في الداخل، والهدف دائماً: قطع الصلة.
الحواجز، أكثر الأمور "طبيعيةً" في منطقةٍ مُهملةٍ مثل منطقة الحرم الإبراهيمي. التفتيش أمرٌ طبيعيٌّ أيضاً، مرور الفرد "أ" وعدم مرور الفرد "ب" أمرٌ متوقّعٌ. كلُّ حاجزٍ له من يمرّه، بعض الحواجز خُصّصت لعائلةٍ واحدةٍ مثل حاجز "الجعبري/العين الحمرا" المخصّص لعائلةٍ واحدةٍ تسكن الحيّ، وبعضها لعوائلَ معينةٍ مثل حاجز "تل رميدة"، وبعضها الآخر للمُشاة.
أما الحركة فهي أقرب ما تكون إلى حركة الطيور داخل قفصٍ، لن تسلم من التفتيش على طبيعة الحال ولو لمرةٍ واحدةٍ خلال الساعة... هل تقترح أُّمك أن تذهب للدكان القريب في البلدة القديمة طلباً لبعض الملح؟ الأفضل أن تتعوّد غياب الملح عِوضاً عن الانتظار على الحواجز.
"شيك" من داخل حارة غيث والسلايمة.
أذكر تماماً كيف احتفل أهل منطقة الحرم الإبراهيمي يوم دخلت "تاكسي صفراء -نمرة فلسطينية" إلى منطقتهم؛ وهو أمرٌ لا يحدثُ مُطلقاً، ولا أعرف حتى إن كان دخولها صدفةً أم لـ"حالةٍ طارئةٍ"، وإن كانت الأولى، فالدعاء للسائق!
نجحنا نحنُ، أهل الخليل، بتفتيت أرضنا، ليس بالبيع؛ إنما بالإهمال …
المنطقةُ الأهمُّ في المدينة خاليةٌ، تتحوّل إلى "مدينة أشباحٍ" كما تصفها تقارير وسائل الإعلام التي تزور المنطقة من فترةٍ إلى أخرى. أمعنّا نحن في جعلها كذلك بأيدينا، فلم نُضِفْ الحواجز فيها، إنما أضفناها أمامنا، حتى باتت زيارتها أمراً مشبوهاً يحتاج إلى حُججٍ قويةٍ ومبرّراتٍ غير تلك المعنيّة بضرورة وجودك في "أرضٍ تؤخذ منك عنوةً". غيابنا يفتح الباب مراراً لكلِّ حاجزٍ، هل ستلاحظ الحاجز الجديد؟ بالطبع لا!
أصبحت المنطقة بسببنا حِكراً لساكنيها، ثمّ نبرّر إهمالنا بـ (لنا "الفوقا"ولكم"التحتا") !
"الفوقا" و"التحتا" تقسيمٌ فوق التقسيم؛ إذ كانت اتفاقية الخليل، التي قسّمت المدينة إلى هـ1 وهـ2، [3] خطوةً باتجاه التفكيك. كما كانت مجزرة الحرم الإبراهيمي خطوةً أخرى تجاهه، ما يعني أن الطرف المعادي لا يحتاج إلى حجّةٍ كي يستولي وينهب، لا يحتاج منا حمل السكين كي يقتلنا، ولا يحتاج منا براءتنا. هو غيرُ مكترثٍ بمن يقتله شخصياً حتى، يكفي أنكَ من الطرف الآخر ليكون هذا سبباً لتصفيتك.
كلُّ الخليل قريبةٌ من بعضها، كلُّها قطعةٌ واحدةٌ فُكِّكت بالتقسيم، فالزيارة التي تحتاج منك خمسَ دقائق مشياً على قدميك، أضحت تحتاج أضعاف الوقت؛ ذلك أن الاحتلال لم يضع نفسه عبثاً في أيّةِ بقعةٍ، فأينما وَجد هناك مركزين قريبين، فصلهُما بثكنةٍ في المنتصف ليتمدّد لاحقاً، هذه طريقته في التوسّع هنا، فأصبحنا أجزاءَ مبعثرةً لا تشبه بعضها حتى.
الناس في البلدة القديمة ومنطقة الحرم الإبراهيمي وما بعده ودودون جداً. لن يكلّفك الأمرُ أكثر من زيارتين حتّى يدعونك لاحتساء فنجان قهوةٍ في المرة الثالثة، وقد لا يكون ذلك حبّاً فيك؛ إنّما حبٌّ بكسب الزائر الذي لا يجيء إلا قليلاً، قليلاً جداً!
المصدر: باب الواد
***
الهوامش:
[1] يُعطى سكان تلّ الرميدة أرقاماً خاصةً تُتيح لهم دخول حيّهم ومنازلهم، وهو أمرٌ غيرُ متاحٍ لبقية الفلسطينيين.
[2] يبجل الكرة: يفقأها أو يشقّها.
[3] أُلحق باتفاق أوسلو اتفاقٌ خاصٌّ سُمّي بـ"بروتوكول الخليل" عام 1997، تمّت فيه الموافقة على سيطرة العدو على الأماكن التاريخية المقدّسة ومركز المدينة التاريخية.