بين ضمة صدر وأخرى كان الفارق الزمني 16 عاما، سنوات عجاف قضاها الأسير الفلسطيني كامل الخطيب (36 عاما) بعيدا عن حضن والدته خديجة الخطيب (أم إبراهيم) محتبسا شوقه لساعة يكون فيها اللقاء وينسيه هما وحزنا عاشهما بعيدا عنها.
منذ اعتقاله عام 2003 وحتى الإفراج عنه قبل أيام، ظل الصراع بين كامل والسجان الإسرائيلي محتدما، بحرمانه من زياراتها باستمرار واحتضانها، حاله في ذلك حال آلاف الأسرى الذين يعيشون وجعا بالبعد عن ذويهم يلازمهم طوال سجنهم.
إلى الشرق من مدينة نابلس، حيث مخيم بلاطة للاجئين الفلسطينيين ومولد كامل الخطيب، كان الأهل والصحب يستعدون لاستقباله محررا من سجون الاحتلال، وبالتزامن مع ذلك كانت والدته تنقل لغرفة العناية المشددة بأحد مشافي المدينة.
تعمد الاحتلال تأخير الإفراج عن كامل كأنه يتقصد منع رؤيته والدته، لكن قدر الله أقوى، فخرج كامل وانطلق من حاجز بيتونيا وسط الضفة للمشفى، حيث ترقد الأم المكلومة، وهناك احتضنها وهمس بأذنها قائلا "يما اطلعت ارضي عني"، فأمسكت بيديه وربتت فوقهما، كأن الله أمهلها لهذه اللحظة لتشعر بنجلها الأسير قبل أن تفارق الحياة.
لم تكن تلك اللحظات يسيرة على كامل ومن حضر وفاة الحاجة خديجة، لكنها طوت، "حسرة" كان سيعيشها أبدا لو توفاها الله قبل أن يراها، وهو بهذه النظرات سيُعوِّض غيابه عنها قسرا خلف قضبان السجون.
بالورد استقبلته
وهي أيضا أعدت لهذا اللقاء جيدا، وأحست سلفا بأنها لن تكون بخير، فأوصت بناتها بإعداد إكليل من الورد ليلبسه فور تحرره أملا في حياة أفضل تمنتها له، وهو ما فعلته ابنتها الكبرى، ووفت بوصية والدتها داخل المشفى وبين الحضور.
قبل 14 شهرا، وبعد ست سنوات من الحرمان من الزيارة كنوع من العقاب لكامل، كانت زيارة خديجة الأخيرة له في سجن النقب الصحراوي، فبعد أن نال المرض من جسدها المنهك، استنفر كامل وضغط بكل قواه ليراها وإن كان فوق كرسي متحرك وبسيارة إسعاف.
في مركز نادي بلاطة اختلطت مشاعر الفرح والحزن معا، فبيدٍ كان كامل يستقبل المهنئين وبالأخرى يصافح من جاؤوه معزين بوفاة والدته التي اكتست الجدران بصورها وصور نجلها الأسير وبشعارات المؤازرة والتضامن معها.
إلى جانب كامل كان ابن عمه خليفة الخطيب يقف ليعرفه بالزوار، فسنوات السجن أنسته ملامح الكثيرين والجيل الصغير. يقول خليفة إنهم صاروا "شبابا يافعين". انتقل الأسير في زيارة لأمهات الأسرى والجرحى داخل المخيم، كأنه يُعوِّض نقصا بفقد أمه.
كان ذلك جزءا من رد الجميل لحاجة سخرت كل حياتها لدعم المناضلين وإيواء المطاردين في الانتفاضتين الأولى والثانية، وساندت الأسرى بالاعتصام معهم والشد من عزائمهم خلال إضراباتهم عن الطعام رفضا للرضوخ لضغوط الاحتلال وممارساته القمعية بحقهم.
تفاعل كبير
وبرز التضامن أكثر عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث تفاعل كثيرون مع قصة الأسير الخطيب، وربطوا ذلك بمعاناة الأسرى في سجون الاحتلال.
وتناقلت منصات التواصل محليا وعالميا اللحظات الأخيرة التي جمعت كامل بوالدته بالمشفى، فكتبت الصحفية ريما العملة على صفحتها في فيسبوك "16 عاما كانت أم الأسير كامل الخطيب تنتظرها لتحضن ابنها أو تراه دون قيد أو شرط ودون قضبان وحواجز".
وكتب السياسي والأسير السابق حسام خضر "إن الله استجاب دعاءك وأنت تواصلين الليل بالنهار ابتهالا بأن تلتقيه، رحمك الله يا أم إبراهيم".
وعجت مواقع التواصل أكثر بصور الأسير الخطيب وهو يحتضن والدته ويتحدث معها وينقل لها رسالة الأسرى بينما تخبره شقيقته الكبرى وصية والدته عليه.
فرح وحزن
وإلى حد كبير تتشابه قصص المعاناة للأسرى، ومثل كامل عاش الأسير حسن فطافطة (58 عاما) من مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية حرمان كامل، بعد أن قضى نصف عمره بسجون الاحتلال ولا يزال معتقلا، حيث توفيت والدته وتزوج أبناؤه وهو معتقل.
كتب شقيقه محمود عبر صفحته في فيسبوك قبل أيام بعد أن أدرج صورة له: إن شقيقه أكمل عامه 16 وبقي على حكمه عامان، "ورغم كل قسوة الاحتلال وممارساته فإنه هو من ذل السجن والسجان".
ولا تنحصر قصص الأسرى في واحد أو اثنين، فلا يكاد يمر أسبوع إلا فقد أحدهم أحد أبويه أو قريبا من الدرجة الأولى، والفقد هو أصعب درجات الحزن بالنسبة للأسير، أما الفرح فالغصة موجودة ولكنها ليست كالموت.
يعني الموت بالنسبة للأسير موت آخر له في سجنه، فالأمل الذي يخيم عليه كل حين بزيارة أو اتصال سيتبخر، فعالم الأسر موحش وإن اجتمع إخوة الكفاح سويا.
تقول أمينة الطويل الباحثة بمركز أسرى فلسطين للدراسات إن أصعب وأقسى لحظة على الأسير أن يبلغ بوفاة والده أو والدته، "حتى أن بعضهم لم يستطع إخبار أحد الأسرى بوفاة والدته لشدة تعلقه وحبه لها، فأخبرته بذلك إدارة السجن بعد أسبوع".
داخل سجنه عاش كامل الخطيب حزنا مركبا، كآلاف الأسرى لا يُغادرهم الحزن لحظة واحدة؛ فالاحتلال يطمس أي فرح يحاول اقتناصه ولو لبعض الوقت، لكن نظراته الأخيرة لأمه ستعوضه هذا الغياب الأبدي.
المصدر : الجزيرة