أعجب لصديقي الأستاذ الدكتور الذي أراه ينبري هذه الأيام دفاعاً عن حرية الرأي وعن الحق في التعبير عنه، وهو الذي ما حرك ساكناً حيال ما جرى ويجري في جامعته من أعمال قمع لهذه الحرية وتنكيل بها منذ عام كامل وزيادة!
أعجب لصديقي الذي ظل- وما يزال- ساكتاً ساكناً دون حراك وهو يرى في جامعته قمعاً للرأي وتنكيلاً به وصل حد إغلاق إدارة الجامعة في شهر إبريل من العام الماضي 2012 الموقع الإلكتروني لنقابة العاملين المنتخبة التي لا سلطة ولا ولاية عليها إلا لهيئتها العمومية- قاعدتها- التي انتخبتها!
أعجب لصديقي- الذي يدافع عما أسماه "الشرعية الديمقراطية"- أن يظل ساكتاً، فلا ينبس ببنت شفة، وساكتاً لا حراك فيه، وهو يرى الإدارة القمعية للجامعة تجمد عمل نقابة العاملين التي شارك هو في اختيارها بالانتخاب الديمقراطي الحر! أهذه هي الشرعية الديمقراطية التي يتحدث عنها صديقي الأستاذ الدكتور الذي أحبه؟!
أعجب لصديقي- الذي أراه اليوم (ثائراً!) على جهاز أمني استدعاه- أنه لم يثر بالأمس القريب على إدارة جامعته التي لم تجمد عمل نقابة منتخبة فحسب، وإنما أغلقت مقرها أيضاً، دون أن يضع في حسبانه ذلك البون الشاسع بين قمع يمارسه جهاز أمني ضد الكلمة وقمع تمارسه جامعة الأصل فيها أن تكون الحامية للكلمة والمدافعة عن حريتها!
أعجب لصديقي الذي (يثور!) اليوم على جهاز أمني لأنه يراه قامعاً لحرية الرأي والتعبير، فيما أعجبه، بالأمس، وراق له أن يظل ساكتاً على إدارة جامعة أغلقت بالجنازير مقر النقابة المنتخبة، كما أغلقت قاعة الاجتماعات الكبرى قامعة بذلك اجتماعاً للهيئة العمومية كان محدداً على نحو مسبق، الأمر الذي اضطر العاملين إلى عقد اجتماعهم تحت أشعة الشمس وفي العراء!
أعجب لصديقي الذي لا يعجبه اليوم (وأنا معه في ذلك) استدعاء جهاز أمني له أن ظل بالأمس ساكناً وساكتاً على قيام إدارة الجامعة بتوقيع عقوبة الخصم من رواتب العاملين الذين ما كانت جريمتهم إلا أنهم التزموا بإضراب دعت إليه نقابتهم المنتخبة! هل تتجزأ حرية الرأي والتعبير فندافع عنها ونقف ضد قمعها هنا، ونتركها ونسكت عما يمارس ضدها من قمع هناك؟!
أليس عجيباً، إذَنْ، أن يدافع اليوم عن حرية الرأي والتعبير من ظل يغمض عينيه ويصمّ أذنيه عن هذه الحرية التي مورس القمع والتنكيل ضدها في جامعة الأصل فيها أن ترعى هذه الحرية وأن تحميها وتدافع عنها وأن تجعلها أساساً من أسس إنشائها؟!
أليس غريباً أن يدافع اليوم عن حرية الرأي والتعبير أستاذ جامعي منطلقُهُ في الدفاع عن هذه الحرية هو أمر آخر غير حمايتها وصيانتها والدفاع عنها، وهو أن يتخذها متكأ للهجوم على ما لا يروق له، سواء على مستوى الشكل أو المضمون أو الغاية أو الأيديولوجيا؟!
أليس غريباً أن يتساءل صديقي مستغرباً عما إذا كانت أجهزة أمن حماس "تدرك وتعقل"- حسب قوله-"مفهوم الشرعية الدستورية والديمقراطية من خلال السماح بحرية الرأي والتعبير لمن يخالفونهم الرأي"، فيما لا يوجه ذات السؤال إلى جامعة الأصل فيها أن تكون المعلم والراعي والحارس لحرية الرأي والتعبير، والأصل فيها أن يدرك أربابها ويعقلوا المفهوم الحقيقي للشرعية الدستورية والديمقراطية من خلال السماح بحرية الرأي والتعبير لمن يخالفونهم الرأي؟!
أليس غريباً أن يقول صديقي في مقاله بعنوان "لا شرعية لنظام سياسي بدون وجود معارضة": "إن القارئ المبتدئ في علم السياسة... يعرف أنه لا شرعية ديمقراطية بدون جود معارضة وحرية رأي وتعبير"، ذلك أن "الفيصل وجود معارضة تمارس حقها في إبداء الرأي بحرية"، فيما يركن إلى حائط السكوت والسكون والاستكانة حيال ما جرى ويجري في جامعته من انتهاك واضح وفاضح لحرية الرأي والتعبير في أكثر من مرة وأكثر من موقف؟!
أليس غريباً أن يستشهد صديقي الأستاذ الدكتور بالإمام الشافعي وهو يقول: " رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، مؤكداً على أن هذا القول للإمام الشافعي "يدل"-من وجهة نظر صديقي- على سماحة الإسلام ودرجة الحرية الفكرية والتعددية المسموح بها قبل أن تتم مصادرة الإسلام من جماعات إسلاموية شوهت الإسلام"، فيما لا يحاول صديقي- البتة- أن يستشهد بمقولة الإمام الشافعي هذه دفاعاً عن حرية الرأي والتعبير وعن الحرية الفكرية والأكاديمية المنتهكة في جامعة مارس الفاسدون من أربابها القمع بحق زميل أكاديمي تصدى لمحاولات قمعها وانبرى دفاعاً عنها فناله من الأذى في سبيلها ما لم ينله في الجامعة أحد آخر؟!
ما أجمل أن يقول صديقي إن "كل نظام يقمع حرية الرأي والتعبير يفقد شرعيته"، ولكن كم ينقلب جمال قول صديقي إلى قبح مضاعف أضعافاً مضاعفة حينما تنكشف حقيقة هذا القول بأنه قول حق يراد به باطل، ذلك أن قوله هذا- وهو صائب في ذاته لا في سياقه- لم يكن دفاعاً عن حرية الرأي والتعبير، باعتبارها من الأسس والمبادئ التي لا يمكن التفريط فيها، وإنما كان هجوماً على حكم يخالفه ويختلف معه من منطلق أيديولوجي بحت وليس من زاوية النفع والضرر أو تغليب الصواب على الخطأ أو النفع العام على الخاص، لأن تغليب العام على الخاص والصواب على الخطأ ينبغي لكل من كان الصواب جادته ووجهته أن يُغَلِّبه، وهو ما أثبت صديقي الأستاذ الدكتور بجلاء ووضوح ومباشرة أنه ليس نهجه، لا سيما وإننا لم نَرَ منه حتى اللحظة غيرته على جامعته التي نكلت- وما تزال تنكل- ليس بحرية الرأي والتعبير فحسب، وإنما أيضاً بأكاديمي زميل عقاباً له على وقوفه ضد قمع حرية الرأي والتعبير بصفتها أم الحريات التي لا وجود لأي حرية في غيابها!
إذا كان الباعث الحقيقي الذي حرض صديقي الأستاذ الدكتور على كتابة مقاله: "لا شرعية لنظام سياسي بدون وجود معارضة" هو استدعاء الأمن الداخلي الحمساوي له يوم الخميس 23/5/2013 وحجزه لديه من العاشرة صباحاً حتى الرابعة مساءً، كما يقول، فإنني أتساءل: ألم تكن أعمال القمع والتنكيل بحرية الرأي والتعبير التي مارستها إدارة الجامعة- وما تزال تمارسها- كافية عند صديقي لتكون باعثاً يستثيره فيحرضه لينتصر لحرية الرأي والتعبير فيدافع عنها باعتبارها حقاً مقدساً لا مساس به ولا تنازل عنه ولا مساومة عليه؟! أليس الدفاع عن حرية الرأي والتعبير التي تقمعها جامعة يجب أن يكون مقدماً على الدفاع عن حرية الرأي والتعبير التي تقمعها حكومة أو سلطة أو يقمعها جهاز أمني؟! أليس قمع الجامعة لحرية الرأي والتعبير أكثر خطراً وفداحةً من قمع جهاز أمني لهذه الحرية؟! إذا كانت الجامعة قامعة لحرية الرأي والتعبير وظلت عقول الأكاديميين والمثقفين والمفكرين حيال قمعها ساكتة وراضية وساكنة ومستكينة، فكيف يمكن لهؤلاء الأكاديميين والمثقفين والمفكرين الذين سكتوا ورضوا وسكنوا واستكانوا أن يقنعوا جهازاً أمنياً بفداحة قمعه لهذه الحرية التي قمعتها الجامعة قبله؟! آه، لو كان أصدقائي يعقلون! إن تركت بيتك خرباً فاسداً لم تصنه ولم تدافع عنه ولو بدفعك الضُّر عنه، فإن أحداً لن يصدقك لو حاولت إصلاح بيت غيرك، فيما بيتك الخراب ضارب فيه.
إنني أسأل صديقي الذي أحبه: أتدافع الآن عن حقك الشخصي وعن حريتك الشخصية في الكلام والتعبير عن نفسك، أم أنك تدافع عن حرية الرأي والتعبير بصفتها ركناً أساسياً وحقاً ثابتاً لا يُسَاوم عليه؟! إن كنت تدافع عن حريتك الشخصية حيال تصرف جهاز أمني معك، فهذا والله من حقك، وأنا أول من يقف معك وينتصر لموقفك ويؤيدك، وإن كنت تدافع عن الحق الإنساني في الرأي والتعبير عنه، فإن هذه الحرية (حرية الرأي والتعبير) لا تتجزأ كما قمت أنت بتجزئتها، فكانت ثورتك ضد جهاز أمني استدعاك للتحقيق معك (وهذا والله من حقك) بينما كان سكونك وسكوتك على إدارة جامعة انتهكت حق الرأي، ونكلت بحرية التعبير عنه حجة عليك، وهذا أمر يشينك، مع تقديري لكريم شخصك.
إن المثقف الحقيقي لن يكون في لحظة من لحظات حياته مع أي جهاز أمني يستدعي الأكاديميين والمثقفين وأصحاب الرأي والكتاب ليحقق معهم بطريقة قمعية مهينة إزاء انتقادهم لسلوك حكومةٍ أو سلطة، غير أن المثقف الحقيقي، أيضاً، لن يكون مع أستاذ جامعي يصب جام غضبه على حكومة أو سلطة انطلاقاً من خلافه الأيديولوجي معها، أو حبه أو بغضه لها، فيما يترك أرباب الجامعة التي يعمل فيها وينتمي إليها يعيثون فساداً فيها دون أن يقول كلمة واحدة ضد ما يراه من فساد يقتحم بؤبؤ عينه في كل يوم وفي كل لحظة يقف فيها في قاعة الدرس التي تشهد جدرانها - على سبيل المثال- من الفساد أسوأ أنواعه.
إنه على الرغم من كل ما مرت به الجامعة من مواقف وأوضاع ذُبِحَتْ فيها حرية الرأي التي ينبري اليوم صديقي دفاعاً عنها لأسباب هي ليست اهتمامه بها أو انتصاره لها،
وعلى الرغم من أن قمع هذه الحرية في الجامعة ومن أربابها ليس في أي حال كقمعها في أي مكان آخر سواها،
وعلى الرغم من أن صديقي لم يدافع عن هذه الحرية المقموعة في جامعة هو أستاذ فيها وفي سلطة ظل قرابة عام وزير ثقافة فيها، دون أن ننسى أن وزير الثقافة ليس إلا وزير دفاعٍ عن حرية الرأي والتعبير، إلا أنني أنتصر لصديقي فيما يقول دفاعاً عن حرية الرأي والتعبير وأعلن مناصرتي له في دفاعه عن هذه الحرية التي أرى أن صديقي لا يراها إلا بعين واحدة وهو الذي حباه الله عينين اثنتين لا واحدة، دونما إدراك منه بأن رؤيته لهذه الحرية بالعينين الاثنتين اللتين أنعم الله بهما عليه سوف تريه شيئاً آخر مختلفاً تماماً عن رؤيته التي نراه الآن عليها.
وبعد، فإنني إذ أنبه صديقي العزيز إلى أن حرية الرأي والتعبير قدسيتها كلٌّ لا يتجزأ أبداً، لأدعو الحكومات والحكام- ناصحاً- أن يكفوا عن استدعاء الأكاديميين والكتاب والمثقفين والتحقيق معهم على نحو مهين، فيما يكتبون وينتقدون، مذكراً إياهم ليس فقط بالتشريعات والقوانين الدولية والإنسانية والمحلية الفلسطينية التي تكفل جميعها للإنسان حقه في أن يكون له رأي، وحقه في التعبير عنه، باعتبار ذلك حقاً أساسياً لا يجوز التنازل عنه، أو المساومة عليه، وإنما أيضاً بالتعليمات والأوامر الإلهية والتوجيهات النبوية التي ينبغي لنا أن نلتزم بها وألا نحيد عنها، فنعطي بذلك للرأي أهميةً وقيمة، ولحرية الرأي والتعبير عنه جلالاً وقدسية.
أما آخر الكلام، فإنني إذ أذكر كل قامع لحرية الرأي والتعبير بأنه مجافٍ للأوامر الإلهية وللتوجيهات النبوية ومنتهك للتشريعات والقوانين الدولية والإنسانية والمحلية الفلسطينية، لأطمئنه وأؤكد له بأن
الحرف قبل الموت ينتصر
وعند الموت ينتصر
وبعد الموت ينتصر
والسيف مهما طال ينكسر
ويصدأ... ثم يندثر
ولولا الحرف لا يبقى له ذكر
لدى الدنيا ولا خبرُ