بين 2014 حتى اليوم، تجلّت المحطات الأكثر قسوةً على غزّة؛ حين ارتأى العدو انتقاماً من الجماهير، محوّلاً الحصار إلى مسامير في عظامها، ظناً منه بقدرته في اللحظات "اللاإنسانية" التي فرضها عليهم على انتزاع ثنائية يكونون فيها على طرفٍ نقيضٍ للمقاومة. الانتقام هنا ليس باتجاهٍ واحدٍ، بل متبادل جداً؛ بمعنى الضغظ على الحاضنة من باب المقاومة، والضغط على المقاومة من باب الجماهير.
صحيح أنّه خلال هذه السنوات فقدنا كثيرين بفعل هذا التصوّر المتخيّل للعدوّ، ولا يزال ذاك التصور ومشروع الفقد قائماً وبقوّة، لكنّ هذا الخيار يستبطن ضمنياً يأساً مهولاً من غزّة ليس باعتبارها مجرّد مكانٍ، بل بوصفها بناءً مستمراً لهويةٍ فلسطينيةٍ حقيقيةٍ استمدت معنى وجودها وتجمُّع كثيرين حولها من وجهة الصراع النضالي الذي تقوده. نحو فلسطين.
أربعُ سنواتٍ من حصارٍ شديدٍ التقطتها المقاومة بأثرٍ عكسيٍّ؛ ففي الوقت الذي كان فيه العدو يراكم يأساً من تحقيق أيّ إنجاز حقيقي في غزّة، كانت غزّة بمقاومتها تراكم مفارقاتٍ كبيرةً للحصار ومواجهةً لامرئيةً عنّا تعيش فيها لكنّنا نرى نتيجتها اليوم؛ بأنْ تبحث وتصنع وتجرّب وتنجح وتفشل وتزحف وترابط ويستشهد من عناصرها كثيرون وهم يؤدّون مهامهم الجهاديّة.
اليوم، نحن مدينون لكل هؤلاء ممّن تسمح لنا الشهادة وحدها بأنّ نتعرّف على هوياتهم وصنيعهم؛ ممّن يعرّفون اللحظة اللإنسانية بكلّ لحظة نعيشها تحت سلطة العدوّ ونقبل بها، ليختاروا تحدي تاريخها الطويل، وتحدّته فعلاً دماء السبعة الذين استشهدوا أول أمس؛ هذه الدماء التي تعاطت مع محاولة التجرؤ على أرض غزّة لحظةً لاإنسانيّةً لا يمكن تمريرها. وصحيح أن ما حدث يستلزم منّا الوقوف عنده، لكن حتى محاولة التسلل تحكي صوتاً خاصاً فرضته غزّة بأنّ خيار الاستباحة العلنية ليس وارداً.
إذ إنّ غزّة التي هزمت المستوطنات داخلها وها هي تهزم مستوطنات ما حولها لا تقبل بأن تكون تلك اللحظة اللاإنسانية الأكثر مباشرةً جزءاً من تاريخها المحفوظ. ما يجري ليس مجرّد عقابٍ على "محاولة تسلّل خفية" باءت بفشل هدفها، بقدر ما هو تعبيرٌ دائمٌ ومفتوح عن فلسطين التي نصل إليها من غزّة؛ عن هوية معمّدة بالدم والسارية المقاومة. تخيلوا يا جماعة أن الشريطين اللذين بثتهما المقاومة الأمس واليوم، وأنسيانا قليلاً القهر الذي نعيشه، انبثقا لنا من تحت حصار ومقتلة يومية وتجويع، لكنهما مدرسة في حربٍ نفسيّةٍ ستجرّ مزيداً من يأس "الآخر" من غزّة وتجريب المجرّب.
وهنا يقع مكمن صراعنا؛ صراع على اليأس والأمل. أقدامنا مشدودة إلى هذه الأرض بفعل الأمل الذي تزرعه فينا غزّة، ويزيد بالمقابل من يأسهم وينقص من عمرهم حتى يصل هذا المشروع إلى نهايته المستحقّة، ونفتح صفحاتنا ونكتب تاريخنا نحن. تاريخ المنتصر الذي لن يرحم كلَّ من حاصر غزّة، ويخلّد من ذاك العلم الذي استحال ناراً بوجههم أيقونةً تحفظ بداخلها الكثير من الإرادة والأمل