لا شك أن ما من قانون قد أثار جلبة في الحياة التشريعية الفلسطينية مثلما أثارها قانون الضمان الاجتماعي، حيث يمس هذا القانون بشكل مباشر حياة الطبقتين العاملة، والوسطى في المجتمع الفلسطيني، وهما الفئتين الأساس في هرمنا الاجتماعي. كما يؤثر على مصالح أرباب العمل والشركاء في المشاريع الاستثمارية الكبرى في القطاع الخاص.
ونظرا لأن القانون لم يخضع لنقاش مجتمعي في قطاع غزة، بل وتمثلت ردة فعل المواطنين في قطاع غزة بمتابعة ردود الأفعال في الضفة الغربية، شأنها شأن أي حدث عابر، فسأحاول في هذا المقال تحليل البيئة القانونية والاقتصادية المرتبطة بقانون الضمان الاجتماعي، والتي أعتقد أنها تؤثر سلبا على حسن تطبيق القانون في قطاع غزة.
في فلسطين، بلغ عدد المستخدمين بأجر في القطاع الخاص 351 ألف عامل؛ بواقع 231 ألف عامل من الضفة الغربية، و 120 ألف عامل من قطاع غزة. حيث أن أكثر من نصف المستخدمين بأجر يعملون في القطاع الخاص بواقع 52.0% في الضفة الغربية و 54.3% في قطاع غزة. ويتقاضى حوالي 36% من المستخدمين بأجر في القطاع الخاص يتقاضون أجراً شهرياً أقل من الحد الأدنى للأجر (1,450 شيكل)، وتشير بيانات الجهاز المركزي للإحصاء إلى أن 21.8% فقط من المستخدمين بأجر في القطاع الخاص يحصلون على تمويل التقاعد أو مكافأة نهاية الخدمة . وفي في نهاية أكتوبر 2018 بلغ عدد العاملين المسجلين في مؤسسة الضمان الاجتماعي 15.000 عامل منذ أن فتح باب التسجيل في شهر 14/8/2018 .
توحي مؤشرات القوى العاملة، خاصة في قطاع غزة، بصعوبة تطبيق قانون الضمان الاجتماعي، حيث يبلغ عدد العمال في قطاع غزة نصف عدد العمال في الضفة الغربية، و ينبغي أن نشير إلى أن هذا الرقم لا يعني أن هؤلاء العمال هم خاضعون أو مستفيدون من قانون الضمان الاجتماعي، وذلك لعدة أسباب:
1- طبيعة التعاقد: يعتبر قانون الضمان الاجتماعي بان علاقة العمل منتظمة، إذا عمل العامل لدى صاحب العمل ل 16 يوم فأكثر في الشهر لدى صاحب العمل نفسه بموجب عقد عمل ينظم وفق أحكام قانون العمل، ويلاحظ أن قانون العمل لم يشترط تنظيم عقد عمل مكتوب بين العامل وصاحب العمل فالمادة المادة (24) من قانون العمل رقم 7 للعام 2000 تنص على أن " عقد العمل الفردي هو اتفاق كتابي أو شفهي صريح أو ضمني يبرم بين صاحب عمل وعامل لمدة محددة أو غير محددة أو لإنجاز عمل معين يلتزم بموجبه العامل بأداء عمل لمصلحة صاحب العمل وتحت إدارته وإشرافه، ويلتزم فيه صاحب العمل بدفع الأجر المتفق عليه للعامل" .
إن معظم العمال في قطاع غزة هم مستخدمون مؤقتون، أو خاضعون للأجر اليومي، وتشير البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء إلى أن ربع العمال في فلسطين لا يمتلكون عقود عمل، وستسهم هذه الإشكالية في خلق بيئة غير مواتية لتطبيق أمثل لقانون الضمان الاجتماعي وتتمثل هذه الصعوبات في :
· وجود إشكالية حقيقة في فهم العلاقة التعاقدية بين العامل ورب العمل في ظل عدم إلزام قانون العمل رقم 7 للعام 2000 لرب العمل بتنظيم عقد عمل مكتوب.
· حرمان طائفة من المتعاقدين الغير معترف بهم بأنهم عاملون أو موظفون لدي المؤسسات والشركات، خاصة العاملون على بند الاستشارات، المتعاقدون بالقطعة، والذي يعمل بعضهم لفترة طويلة في مؤسسات وشركات.
2- ثانيا: الحد الأدنى من الأجور في قطاع غزة : إن الحد الأدنى للأجر الخاضع للاشتراك في مؤسسة الضمان الاجتماعي هو الحد الأدنى للأجور حسب قرار مجلس الوزراء في حكومة التوافق، وهو غير قرار مطبق في قطاع غزة والبالغ 1450 شيكل، وهو يقل عن الحد الأدنى واقعيا في قطاع غزة، حيث تشير بيانات الجهاز المركزي للإحصاء إلى أن في قطاع غزة 84,900 مستخدم بأجر وبمعدل أجر شهري قدره 744 شيكل، وحسب قانون الضمان الاجتماعي، فإن العاملين الحاصلين على راتب شهري أقل من الحد الأدنى للأجور لن يسمح لهم بالانضمام للمؤسسة الضمان الاجتماعي، وهذا يعني استثناء 69.4% من إجمالي المستخدمين بأجر لدى القطاع الخاص، وفي الحقيقة إذا استثنينا الاستشاريين، وموظفي القطعة، والعاملين بعقود مقاولة، والموظفون المؤقتين لدى مؤسسات المجتمع المدني بعقود شهرية أقل من سنه، فإن فقط 10% من إجمالي المستخدمين بأجر في قطاع غزة سيكونون قادرين على الانتساب لمؤسسة الضمان الاجتماعي.
3- ثالثا: اختلاف الواقع الاقتصادي عن مثيله في الضفة الغربية : يشير علم الاقتصاد القانوني إلى أن القوانين تؤثر وتتأثر بالحالة الاقتصادية، ليس كذلك فحسب بل يعتقد بعض علماء الاقتصاد أن القانون هو فعل اقتصادي بالدرجة الأولى، وفي الحقيقة فإن قراءة قانون الضمان الاجتماعي في ضوء الوضع الاقتصادي الحالي في قطاع غزة ينبأ بعقبات كبيرة تطال تطبيق القانون. حيث تشير بيانات مركز الميزان لحقوق الإنسان نهاية العام 2017، إلى إصدار المحاكم في قطاع غزة أكثر من 100.000 أمر بالحبس في قضايا الذمم المالية، كما تشير بيانات سلطة النقد إلى أنه قد بلغ إجمالي الشيكات المرتجعة في قطاع غزة خلال عام 2017 نحو 112 مليون دولار، وهي تمثل ما نسبته 9.7% من إجمالي الشيكات المرتجعة في فلسطين, مقابل 62 مليون دولار إجمالي الشيكات المرتجعة خلال عام 2016 , 37 مليون دولار إجمالي الشيكات المرتجعة في عام 2015، وهو سيلقي بظلاله بشكل مباشر على حسن تطبيق القانون وذلك من النواحي التالية :
· عدم قدرة أرباب العمل، في قطاع غزة وهم في غالبهم أرباب مشاريع صغيرة ومتوسطة بالوفاء بالالتزامات الملقاة عليهم في ظل الظروف الحالية التي يعيشها قطاع غزة .
· أن الانتساب للضمان الاجتماعي لم يكون من ضمن أولويات العامل في ظل التعسّر المالي الذي يعاني منه القطاع التجاري، بل سيركز العامل أولوياته على الأساسيات، بالإضافة إلى الادخار الشخصي.
· ارتباط الاقتصاد في قطاع غزة بإسرائيل بشكل مباشر، جعل من معبر كرم أبو سالم شريان الحياة الرئيسي للحياة الاقتصادية، وبالتالي تخضع هذه العلاقة للاعتبارات الأمنية والسياسية، فإغلاق معبر كرم أبو سالم لمدة أسبوع واحد يؤدي إلى توقف عمل 75.000 عامل، ويؤدي إلى إغلاق 95% من المصانع في قطاع غزة ([3]).
ويمكن استدلال على الفرق بين البيئتين الاقتصاديتين في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة من خلال مقارنة متوسط الأجر اليومي في الضفة الغربية والبالغ 88.5 شيكل يوميا، ومتوسط الأجر اليومي في قطاع غزة والبالغ 45 شيكل. والذي يقل في كثير من الأحيان عن ذلك بكثير في بعض أصناف العمل، فعلى سبيل المثال: الوسيط اليومي للمستخدمين في قطاع الزراعة والصيد والحراجة وصيد الأسماك بلغ 70 شيكل يومياً للعاملين في الضفة الغربية، و 20 شيكل للمستخدمين في قطاع غزة. إن هذا الاختلاف سيؤدي إلى وجود فارق كبير بين قطاع غزة والضفة الغربية فيما يتعلق بخدمات الضمان الاجتماعي، وستتمثل هذه الاختلافات بشكل أساسي في: (عدد المنتسبين للضمان، عدد المنشآت التجارية المسجلة، توزيع إنفاق المؤسسة السنوي جغرافيا). الأمر الذي سيجعل مؤسسة الضمان الاجتماعي تبدو وكأنها مؤسسة الضمان الاجتماعي للعاملين في الضفة الغربية .
لاشك أن قانون الضمان الاجتماعي يتفق والمعايير الدنيا التي وضعتها منظمة العمل الدولية، المعنونة بالاتفاقية بشأن المعايير الدنيا للضمان الاجتماعي من حيث بنود القانون، إلا أن قضية التأمينات الاجتماعية المسألة لا تتعلق فقط بنصوص القانون بشكلها التقليدي بل بمدى مواءمة هذه القوانين مع البيئة الاقتصادية والقانونية وميراث 18 عام من تطبيق غير سليم لنصوص قانون العمل، إلا أن الشكّ المشروع المقرون بالعديد من القرائن هو مدى قدرة " صندوق الضمان الاجتماعي " في حماية حقوق العمال في قطاع غزة، بالمقارنة مع الشطر الآخر من الوطن.