تدحرجت كرة تسريب العقارات للمستوطنين في القدس بسرعة في الأسابيع الأخيرة، داخل البلدة القديمة وفي سلوان، وهما من أكثر المناطق جذبًا لشهية الاستيطان والتهويد في القدس، فيما تقول مصادر إسرائيلية إن ما تم الكشف عنه ليس إلا غيضًا من فيض عقارات تم تسريبها خلال السنوات الأخيرة، سيتم الكشف عنها تباعًا لاحقًا.
عقار آل جودة المطل على الأقصى في عقبة درويش، ومنزل من شقتين في سلوان، وبناء من ثلاثة طوابق في سلوان أيضًا، ثم في سلوان ذاتها استولى المستوطنون على منزل مسرب قبل سنتين ونصف في حي بطن الهوى. القاسم المشترك بين هذه العقارات جميعًا أن الاستيلاء عليها تم بشرائها من أصحابها المقدسيين، وليس بالتحايل أو بأي من أساليب الاحتلال الأخرى في التهويد والسيطرة.
هذه الفضائح أعقبها ردود فعلٍ من ثلاثة جوانب، أولاً شدٌ وجذبٌ بين أصحاب العقارات من جهة، والنشطاء الذين تحدثوا بوضوح عن تورط أصحاب العقارات في البيع من جهة أخرى. هذا الشد والجذب استُخدمت فيه وسائل التواصل الاجتماعي بقوة، وسط اتهامات من كل طرف لأطراف أخرى بالتورط في تسريب العقارات، مع التنصل من أي مسؤولية عن ما يحدث.
منحت وسائل التواصل هؤلاء فرصة لتضييع الموضوع بين الاتهام والاتهام المضاد، ولا يزال هؤلاء يمارسون حياتهم في القدس بشكل طبيعي، بل إن أحدهم ويُدعى خالد العطاري، تؤكد مصادر من القدس أنه يملك الكثير من العقارات في المدينة، ولا تستبعد أن يُقدم على بيع المزيد منها.
وفي محاولة لتنفيذ هجمة معاكسة على هؤلاء باستخدام مواقع التواصل هذه، أطلق نشطاء هاشتاغ #التسريب_خيانة لفضح المتورطين في جرائم التسريب، وإعلان رفض شعبي للتسريب وبراءة من المتورطين فيه.
الجانب الثاني من ردود الفعل جاء شعبيًا وعائليًا في شكل بيانات عشائرية تتبرأ من المتورطين في التسريب، وأعمال غاضبة تمثلت في حرق سيارات المتهمين بهذا التسريب. وفي هذا السياق أكد المجلس الأعلى للإفتاء على فتوى سابقة بتحريم بيع الممتلكات للمستوطنين، واعتبار ذلك خيانة عظمى للدين وللوطن والأخلاق، وإن كل من يتواطأ في هذه الجريمة هو متآمر على الأرض والقضية والشعب الفلسطيني، وباع نفسه للشيطان، ويجب محاربته على الأصعدة جميعها، والتبرؤ منه عائليًا، بعد ملاحقته أمنيًا.
أما الجانب الثالث فتمثل في تدخل السلطة التي لم تكن بعيدة عن الشد والجذب في الجانب الأول، وتحقيقها في تسريب العقارات، لينتهي الأمر باعتقال محافظ القدس عدنان غيث ومدير مخابرات القدس في السلطة العقيد جهاد الفقيه، بتهمة اختطاف أشخاص يحملون الهوية الإسرائيلية، والمقصود هنا هم المتورطون في تسريب العقارات، الذين لجأوا بصراحة إلى الاحتلال لحمايتهم من تحقيقات السلطة. وفي هذه الحالة فإن دور السلطة ينتهي هنا فعليًا، فالاتفاقيات مع الاحتلال الإسرائيلي تمنع السلطة من اعتقال أي فلسطينيين يحملون الهوية الزرقاء، بل إنها تمنعها حتى من محاسبة العملاء.
جمعية "العاد" الاستيطانية، وجمعية "عطيرت كوهنيم" الاستيطانية، هما الأكثر نشاطًا في هذا السياق. يقول متخصصون في شؤون القدس إن هذه الجمعيات تملك جمعيات وهمية تقوم على شراء الأراضي لخداع الفلسطينيين، وقد سجّلتها بالتعاون مع الجهات المختصة الرسمية في دولة الاحتلال تحت مسميات مثل الأرض والاستقلال. لكن كشف هذه الجمعيات ليس صعبًا، خاصة بالنسبة لأصحاب العقارات في المناطق المعروف أن الاحتلال يهتم بالاستيلاء عليها. فهذه الجمعيات تدفع مبالغ طائلة مقابل الحصول على هذه العقارات، كما أن عملية البيع لا يجب أن تتم دون العودة إلى الشخصيات الاعتبارية العشائرية والمرجعيات الدينية في القدس، واستشارتها بتقديم كافة التفاصيل عمن يعرضون شراء العقارات، ومن هنا تأتي أهمية مواقع التواصل في فضح كافة الأسماء المتورطة في بيع العقارات لمنع التعامل معها ومع من يحيطون بها، وبذلك تجنب الوقوع في الشبهات.
يؤكد هذا الواقع الحاجة الماسة إلى صندوق فلسطيني بل وعربي وحتى إسلامي أيضًا، يعمل بشكل مشترك على شراء عقارات من تدفعهم الحاجة الاقتصادية إلى بيع عقاراتهم وأراضيهم في القدس تحديدًا، وبشكل عام في كل المناطق الحساسة المجاورة للمستوطنات مثلاً، أو الخليل، ومناطق أخرى لا تُفارقها عيون الاحتلال وجمعياته الاستيطانية. يحتاج هذا بالدرجة الأولى إلى تحرك السلطة الفلسطينية والفصائل للتعاون في إنشائه مقابل الجمعيات الاستيطانية النشيطة في الاستيلاء على الأملاك الفلسطينية بوسائل عديدة بعضها اقتصادي، وبعضها بالتعاون مع سلطات الاحتلال.
ولا شك أن هذه الجمعيات تعمد إلى أصحاب العقارات الذين يعانون من ديون متراكمة لدولة الاحتلال نتيجة الضرائب بالدرجة الأولى. يؤكد مختصون في شؤون القدس أن هذه الجمعيات تعلم من بلدية الاحتلال والجهات المعنية في مؤسسات الاحتلال الرسمية بالمديونين ومن يعانون ظروفًا اقتصاديًا صعبة لإغرائهم بالأموال التي تجلبها الجمعيات من رجال أعمال يهود داعمين كبار يقيم كثيرٌ منهم خارج الأراضي المحتلة، ومنهم - على سبيل المثال - وايرفينغ موسكوفيتش الذي اشترى عقار بيت البركة شمال الخليل، وهو طبيب ورجل أعمال أمريكي - يهودي ينشط أساسًا في شراء العقارات بالقدس.
ولا يمكن النظر إلى هذه الأحداث بعيدًا عن مشروع 2020 الذي بدأت بتطبيقه سلطات الاحتلال في القدس قبل عقدين من الزمن، وتسعى من خلاله لأن تكون نسبة الفلسطينيين في القدس بحلول عام 2020 قد تقلّصت إلى 10-12% فقط من نسبة السكان. ما يطرح تساؤلات ويُثير مخاوف حقيقية من حجم العقارات التي تم تسريبها ولم يُكشف عنها حتى الآن، خاصة في ظل المعلومات عن تسريب عقار في باب الحديد بالبلدة القديمة، وعدم الكشف عنه حتى الآن، وقد تورط في تسريبه رجل من عائلة أبو صبيح متورط في تسريب عقار في سلوان أيضًا.
ومما يجدر الإشارة له أن التورط في تسريب العقارات لا يجب أن يُنسينا حكايات عائلات في القدس لا زالت تُقاوم كل الترغيب والترهيب لسلبها عقاراتها، ومن ذلك حكاية المقدسية نورة صب لبن التي خاضت معركة على كافة الأصعدة وصلت حتى قاعات محاكم الاحتلال، رفضًا لمحاولات الاستيلاء على منزلها الذي يحيط به المستوطنون من كل جانب. وقد أثارت قضيتها تعاطف نشطاء دوليين وأجانب مؤيدين للقضية الفلسطينية.
إنها مسألة مبدأ إذًا وليست مسألة فقرٍ أو سواه، إنها المسؤولية الوطنية التي لا زالت حاضرة في نفوس كثيرين من أبناء المدينة المقدسة وتحول دون رضوخهم للضغوطات السياسية والأمنية من جانب، والإغراءات المادية من جانب، وهي الروح ذاتها التي غابت من نفوس من باعوا عقاراتهم وفرّوا إلى الخارج، أو لا يزالون يعيشون في القدس يحتمون بالاحتلال من الموقف الشعبي الساخط عليهم وعلى أفعالهم.