شبكة قدس الإخبارية

حرية الرأي والتعبير.. أم حرية السب والتشهير

٢١٣

 

مهيب المدهون

يرجع مفهوم حرية الرأي والتعبير إلى القرون الوسطى، وذلك في المملكة المتحدة إبان الثورة التي اطاحت بالملك جيمس الثاني من انكلترا، ونصّبت الملك وليام الثالث على العرش، ثم أتى بعد ذلك إعلان حقوق الانسان والمواطن في فرنسا عقب الثورة الفرنسية الذي نص على ان حرية الرأي والتعبير جزء اساسي من حقوق المواطن، بينما كانت في نفس الفترة هناك محاولات من الولايات المتحدة لجعل حرية الرأي والتعبير حقا اساسياً، لكنها لم تفلح بل واعتبرت ان معارضة الحكومة الفدرالية جريمة يعاقب عليها القانون.

وشاع مؤخراً استخدام مصطلح حرية الرأي والتعبير، خصوصا أثناء الثورات التي حصلت في البلدان العربية، ما يؤكد ان هذا المصطلح له جذوره واصالته في نفس الانسان، لما له من أثر في تحقيق الرضى عن النفس، واثبات كينونتها و وجودها.

ولقد كان السبب الأول بل السبب الرئيس لهذه الثورات هو المطالبة بالحرية والانعتاق من قبضة السلطات والحكومات والظلم الواقع عليها، و الافلات من سياسة تكميم الأفواه التي تمارسها بعض النفسيات المريضة والتي تقضي بعدم سماع الآخر، بل انها عقده تعانيها المجتمعات العربيه حتى في تربية اطفالها او من الطبقات التي ترى نفسها افضل من غيرها وتهيم في كبريائها الى حد الثمالة والتيه في الصورة التي تعايشها ولا تريد ان يكون ضمن اطارها احد من غيرها حتى وان تخلت عن اسس عقيدتها الدينية بسبب الا ينتصر عليها فكر وان كان افضل من فكرها، حتى وان كان فيه فضيلة لانها قبلت ان تتخلى عنه لمجرد ان تبقى او لتبقي الاخرين خارج اطار الصوره التي ترى ان لا احد غيرها يستحقها، تلك النفسيات المنغلقة على نفسها فلا ترى في هذا الكون الفسيح الا صورتها البائسة، وهم رغم ذلك كله يدّعون انهم يؤيدون سماع الآخر ومناقشته.

ولا يخفى على كائن من كان تلك الحالة التي نعيشها في فلسطين بشقي الوطن المحتل و المسلوب، من تجاذبات وتناقضات حول المفهوم والحق الذي ان مارسه البعض، سُكت عنه، وان مارسه آخرون ألجموا بلجام من حديد، بل ويُقتاد بعضهم الى اقبية السجون، وان ما نحياه من واقع مرير لاسيما حالة الانقسام التي بتنا نألفها ونعيشها واقعاً، ليشكل وجبة دسمة ومادة قيمة لذوي الأقلام والكُتّاب -ان جاز لي تسميتهم كذلك -للمناكفات والمقالات والكتابات التي يتصف معظمها بعدم الموضوعية، ويتعدى ذلك الى السب والشتم والقاء التهم جزافاً بغير دليل واضح، كل ذلك بحجة حرية الرأي والتعبير.

وتناسى أولئك الكُتـاب أن حرية الرأي لها محدداتها ولها ما يضبطها، فعلى سبيل المثال تمنع الحكومة الفرنسية أي كتابة تؤدي إلى حقد أو كراهية لأسباب عرقية أو دينية، وتعتبرها جريمة يعاقب عليها القانون ويحصل في الدنمارك ان يُسجن أي كاتب تثبت عليه تهم الافتراء او التشهير، بينما يحدث في كثير من الدول الأوروبية تجريم كل من يجرؤ على مهاجمة الرموز الدينية عندهم.

ومن المؤسف ان تصبح حضارة الغرب الوهمية وغير الحقيقية، تمس كافة وظائف ثقافتنا المحلية الحيوية، وأصبحت تنتشر على حسابها.. ونحن نرى في مشهدنا الثقافي مدى الفصل والقطيعة التي أخذ يعلنها العديد من أبناء فلسطين، الذي أصبحوا يعتقدون أن ثقافتنا الإسلامية جامدة وخاوية ولا حياة فيها، ومفتقدة للقيم الإنسانية الحيّة والعقلية والإبداعية، وأصبح يتطلع لقيم غربية يعتقد بأنها غايته المنشودة.. مثل: الديمقراطية، المجتمع المدني، حرية التعبير.

غافلاً عن مدى الرقي في ديننا الحنيف، من منع للشتم والغيبة، والافتراء والتشهير والكذب والتدليس وحتى سب غير المسلمين، وايذاء الآخرين، وكلها عناصر مفقودة في الغرب الواهم، الذي شتم ديننا وصوّر نبي الأرض برسوم كاريكاتير مهينة له، وهو الذي يمنع ويحظر بيع كتاب "كفاحي" لهتلر في ألمانيا ويمنع نشر او تكذيب ما يسمى بالمحرقة، وهو من يكمم فاه المفكرين أمثال المفكر الفرنسي رجاء جارودي والصحفي ابراهيم نافع بتهمة معاداة السامية. وفي انجلترا لا يزال يُعمل بالقانون الذي يمنع سب المقدسات. و حينما أعلن مخرج دنمركي اعتزامه إخراج فيلم في إنجلترا عن "الحياة الجنسية" للمسيح اثار ذلك موجة غضب عارمة لدى الكنيسة ورجال الدين وتم حظره .

من ذلك كله نصل إلى تلك الحقيقة القائلة على لسان جورج اورويل " إن الآراء التي ليس لها شعبية والحقائق التي لا يروق للبعض سماعها يتم إسكاتها دون حاجة إلى أي قرار رسمي يحظر التعبير عنها، وفي كل عصر وحين توجد مجموعة من الآراء التي يُفترض أن أصحاب العقول السليمة سيقبلونها بلا نقاش، وأي إنسان يحاول أن يتحدى هذه الآراء المقبولة سيجد نفسه مخرساً بكفاءة تدعو للدهشة.