في حزيران عام 2011، أثناء بحث عدد من المهندسين الزراعيين الفلسطينيين عن أصناف مختلفة الألوان من سنابل القمح في حقول الضفة الغربية بموسم الحصاد، وصل رجل وصف بأنه "فلاح نشيط" إلى مكاتب وزارة الزراعة شمال الضفة الغربية يحمل سبع سنبلات!.
كان قد انقضى حتى ذلك الوقت سنين طويلة تقدر على نحو غير مثبت بعشرين عاما على فقدان المجتمع الزراعي الفلسطيني لواحد من أشهر الأصناف التاريخية للقمح ويدعى علميا وشعبيا بـ"الهيتي السوداء".
سامح جرار واحد من المهندسين الزراعيين، الذين وقعت أعينهم على السنابل التي وجدت في قرية تياسير، التي تحيط بها سهول حمراء عرفت تاريخيا بزراعة القمح، وتعد الآن مركزا حضريا زراعيا صغيرا يقع على أطراف السفوح الشرقية شمال شرقي الضفة، وما زال سكانها يمارسون الزراعة الحقلية بشغف شديد .
يروي جرار وهو يشغل منصب مدير بنك البذور الفلسطيني تلك الحادثة، التي نبشت مرة أخرى تاريخا طويلا من زراعة هذا الصنف من القمح.
عندما انهارت فلسطين التاريخية كوحدة جغرافية واحدة عام 1948، كان قد مضى على صدور التقرير الشهير للجنة التحقيق الأميركية- البريطانية المتعلق بكافة مناحيها الحياة في فلسطين سنتين، وفيه أقرت اللجنة أن نحو 5? من ارض فلسطين التاريخية مزروعة بالقمح.
كان الرقم تحديدا (1,378,488 دونما) هي المساحة الكلية للقمح الفلسطيني، ويمكن العودة إلى الجزء الأول من ذلك التقرير لاستطلاع جداول تبدو الآن الأرقام الواردة فيها وكأنها محض أحلام.
وما أن انهارت تلك المساحة تحت وطأة قيام دولة إسرائيل، حتى تشتت أصناف القمح أيضا بعد أن تشتت السكان.
بعد عقدين من الزمن على استقطاع ذلك الجزء الكبير من فلسطين التاريخية، احتلت قوات الاحتلال الإسرائيلية ما تبقى من الأرض الفلسطينية، وفي وقت لاحق بدأت شركات احتكارية إسرائيلية بإدخال أصناف جديدة من القمح وجدت طريقها إلى سهول الضفة الغربية.
شيئا فشيئا وأمام رغبة الفلاحين في الحصول على كميات إنتاج أكبر، استعاضوا عن الصنف الشهير "الهيتي السوداء" بأصناف دخلت مع وجود الاحتلال، وسنة بعد أخرى ضاع الصنف بين الأصناف الدخيلة، وتشتت الحبات بين الحبوب الدخيلة.
وأصابت فلسطين التاريخية تلك التغييرات الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية، لكن لم ينتبه أحد إلى الصنف المحدد من القمح الذي اعتمد عليه الريف الفلسطيني في صناعة الخبر.
في ذلك اليوم الذي وصلت فيه السنابل السبع إلى وزارة الزراعة الفلسطينية، تلقف المهندسون الزراعيون ومؤسسات دولية أخرى، الحبات، ونظروا إليها بالعين التي تنظر الى ميزان الذهب.
"كنا نعرف أننا بحاجة إلى ايجاد هذا الصنف، لكننا لم نجده. بحثنا في الخليل وطوباس وجنين"، قال المهندس جرار.
مدير عام المركز الوطني للبحوث الزراعية زياد فضة، يقر تماما بأن القمح البلدي تعرض لهجوم اشترك فيه مالكو الشركات والاحتلال، الذي أتى بأصناف متفوقة على الأصناف المحلية، لكنها لا تصلح لظروف الزراعة في المناطق الجافة.
كانت الزراعة طريقة حياة في فلسطين قبل الميلاد .. وعندما شيدت أريحا أولى المدن في التاريخ كما يعتقد، لازم ذلك الاعتقاد أيضا أن القمح زرع فيها حتى بات لكل شيء منذ ذلك الحين معنى تاريخي وقصة من زاوية محددة مثل قصة السنابل السوداء.
انبهر الفلاحون بالأصناف الجديدة، التي شاهدوها تعطي إنتاجا متفوقا، لكن في ظل تساقط مطري عال، وفي المناطق الجافة، التي شهدت تاريخيا زراعة ذلك الصنف الأصيل من القمح، وجد الفلاحون أن ذلك مجرد حلم.
وفي اختلاط الأصناف ببعضها البعض ضاعت السنابل السوداء كوحدة أصيلة واضحة ومنتخبة بشكل محدد.
كان ذلك "الفلاح النشيط" قد وجد السنبلات السبع في احد الحقول التي كانت مزرعة بأصناف مختلفة من القمح، كما يروي جرار.
"الهيتي الاسود" كما عرف علميا لاحقا في دراسة وافية عن أصناف القمح في فلسطين قدمها المركز الوطني للبحوث الزراعية، يمتاز عن غيره من أصناف القمح البلدية، بأن لون سنبلته سوداء وارتفاعه يصل إلى 130 سم، وينتج حبوبا ذات لون عنبري غامض بيضاوية الشكل.
عندما وصلت تلك السنابل السبع اليتيمة إلى أيدي المهندسين الفلسطينيين، كان العمل جاريا لإنشاء بنك بذور لإعادة الحياة إلى الأصناف، التي كانت على وشك الضياع او فقدت تماما.
"بداية انقذنا الهيتي السوداء من خلال برنامج تربية مدروس بعناية. وأعدنا الصفات الحقيقة لتلك البذور، وأجرينا انتخابا دقيقا لها، بعد أن تخلصنا من الشوائب"، يقول فضة لمراسل وكالة "وفا".
يظهر ذلك مثل انتصار لتاريخ طويل من حفاظ الفلاحين الفلسطينيين على ذلك الصنف من القمح، الذي اختفى سنوات طويلة.
لم تكن تلك السنابل السوداء السبع، التي ظهرت بتلك القصة الغريبة تحت نظر المجتمعين الرسمي والشعبي الفلسطيني الحثيث فقط، إنما أيضا أثارت رغبة دولية في الحفاظ عليها.
وحسب تقديرات رسمية، فإن الفلسطينيين يزرعون الآن نحو 20 صنفا من القمح، "الهيتي السوداء" أحدها.
وبسبب ذلك الضياع التاريخي لتلك السنابل، اعتمد المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة "إيكاردا"، على خاصية التخزين الثنائي والثلاثي .
ممثل المركز في فلسطين عبد الله العمري، يقول: "أرسلنا جزءا من البذور المخزنة في البنك إلى بنك البذور في المغرب، لتكون في الحفظ الاحتياطي، تحسبا لأي عطل مفاجئ في التيار الكهربائي وتوقف المبردات هنا (...) لا مجال للخطأ. إذا فقدنا عينة قد نفقدها إلى الأبد".
ويسرد العمري مثالا على ذلك بطيخ يسمى "محيسن"، الذي فقدت بذوره من فلسطين ولم يعد بالإمكان إعادة زراعته.
على امتداد ما تبقى من سهول الضفة الغربية، يظهر الفلاحون الفلسطينيون هذه الأيام في ذروة انشغالهم في جمع محصول القمح .
الساوية قرية هادئة تقع عند منتصف الطريق بين مدينتي نابلس ورام الله، واحدة من القرى التي اشتهرت تاريخيا بزراعة القمح .
ويستغل فلاحو القمح التقليديون عبر سلسلة وراثية من الجد إلى الأب إلى الابن جزء من المحصول للحفاظ على الأصناف التاريخية من الضياع .فمنذ عشرات السنين حافظت عائلة مطلق موسى أبو راس على بذور الهيتي الكحلاء والبيضاء .
وتقول مريم (65 عاما)، وهي زوجة مطلق: "هذا الصنف الافضل لإعداد الخبز". في وسط هذا السهل تتجمع العائلات التي تحافظ على نسل محدد ومتنوع من القمح التاريخي.
في بلد يحفل بوجود أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث، وجد الخبز كواحد من أعمدة تلك الديانات. كان محور العشاء الأخير للسيد المسيح، كذلك ورد الخبز في العهد القديم والقرآن الكريم.
ما زال الفلسطينيون يقسمون بالخبز. ويقولون "أقسم بهذه النعمة". وزوجة ابو راس لا تقدس الخبز فقط. بل عملية زراعة القمح بمجملها.
كانت مريم ذاتها ترافق خمس فتيات أخريات في عملية "الدراس" التقليدية، التي يجري فيه فصل الحبوب عن السنابل، وتلقم الدَراسة بالغمار فيما تتبادل الفتيات الأخريات الغمار في صف منتظم.
عندما حلت الظهيرة وارتفعت الشمس الى وسط السماء، قال ابو راس: "هذا أفضل وقت لدراسة القمح".
لقد كان غبار دقيق التبن والريح الساخنة المنبعثة من محرك آلة الدراسة، تحجبان الفتيات الواقعات على البيدر عن المدى القريب..
يقول ابو راس "لا يهم حجم البيدر (..) المحصول هذا العام قليل".
لم تكن مأساة السنبلات السود هي الوحيدة التي واجهها الفلاحون الفلسطينيون.
في قرية الساوية وتحديدا في منزل أبو راس حافظت العائلة على مدار عقود على صنف السنبلة الكحلاء وهي أقل دكنة من الهيتي السوداء.
وعبر عشرات السنين، تيقنت العائلة أنها الحبوب المناسبة لإعداد الخبز، وفي كل عام تترك جزءا منها في المخزن لإعادة زراعتها في العام التالي .
ويهبط الفلاحون من القرية الى السهل ويعملون تقريبا يوميا في مواسم الزراعة والحصاد .
عندما هبطت عائلة ابو راس مثلت في مسيرها الصباحي العائلة الزراعية الفلسطينية التقليدية، فقد اشتركت العائلة بربها ونسائها وصبيتها في عملية الحصاد. وما ان بدأ محرك الآلة بالعمل حتى غطيت وجوه الفتيات تماما درءا للغبار الكثيف الناتج عن طحن السنابل .
منذ 40 عاما، تقوم مريم بالمهمة ذاتها؛ الحفاظ على تقليد سنوي لزراعة القمح واعتمدت خلال السنوات الماضية على صنف الهيتي الكحلة .
لكن نظرة عامة من داخل الحقول ومن داخل المؤسسة الزراعية الرسمية ليست وردية تجاه حقول القمح، ففي سهول الضفة الغربية يشكو الناس من ضعف المحصول، وفي جداول وزارة الزراعة يظهر ذلك الانخفاض التاريخي.
وخلال الموسم، هطلت أمطار معتدلة لنمو القمح، إلا أن شكوى عميقة تسري بين فلاحي القمح في الساوية من ضعف الانتاج .بدت السنابل حقا ضعيفة، وبدت الحبوب ايضا متضائلة .
العام الفائت، لم تنتج الضفة سوى 24,239 طنا، وهو أقل من عامي 2016، و2015، حيث أنتج الفلسطينيون 30,278 طنا، وهو رقم لا يكاد يذكر مع السنين الماسية أيام فلسطين التاريخية .
لم يكن فقدان السنابل السوداء وضعف الإنتاج مشكلتين وحيدتين تقفان أمام امتداد هذه الزراعة. فقد هز الشعور بفقدان القيمة الربحية لإنتاج القمح عند الفلاح الفلسطيني اليقين بأهمية تلك الزراعة.
لقد خلت الكثير من السهول والأراضي الجبلية من هذه الزراعة بعد كل تلك التغيرات التاريخية. لكن التغيرات التاريخية ليست فقط ديموغرافية وسياسية.
مدير عام التخطيط في وزارة الزراعة حسن الأشقر، يقول: "مشكلة كبيرة تواجهنا في المحاصيل البعلية، أبرزها التغير المناخي والجفاف وتغير نمط التوزيع المطري. طبيعة الزراعة البعلية تغيرت بسبب ذلك (..) من غير زراعة مروية لن تكون زراعة القمح جيدة. هناك خلل كبير في النمط الزراعي".
"كنا نزرع القمح في الجبال العالية، والآن إذا استخدمنا الري نحن بحاجة إلى السهول. الري ليس ممكنا في الجبال. لم تعد مجدية زراعة القمح كما كانت في السابق. الاستثمار في القمح بحاجة إلى مساحات واسعة". أضاف الأشقر.
يقول العمري إن فلسطين تنتج محليا فقط 5% من حاجتها للقمح، إلا أن وثائق بريطانية رسمية تعود إلى حكومة عموم فلسطين، تشير إلى أن فلسطين كانت مصدرة للقمح.
عندما اعتمد الفلسطينيون تاريخا على "الهيتي السوداء"، وجدوا فيها تلك القسوة التي تشبه قسوة الظروف المناخية التي تزرع فيها.
وعبر التجارب المتتالية، اقروا انها تتحمل السنين الجافة، ولذلك زرعوها في المناطق الحارة نسبيا مثل طوباس وطمون وتياسير التي يسقط فيها ما بين (250-320 ملم) سنويا.
ومنها كانوا يعدون الأرغفة المشهورة عالميا بخبز الطابون، هو ذاته الخبز الذي يعد في فرن تستخدمه عائلة أبو راس في الساوية.
في فلسطين يصل الاستهلاك الشهري للفرد من الخبز والحبوب حوالي 10 كغم، أي ما يعادل 16% من متوسط الإنفاق الشهري للأسرة على المواد الغذائية، بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني 2011.
المصدر: الوكالة الرسمية (وفا) الصور عدسة أيمن النوباني