- تشيلي -
في عام 1973 وبعد شهر واحد من الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال "أوغستو بينوشيه" والذي أطاح بالزعيم الماركسي "سيلفادور ايندي" -الذي جاء عبر صناديق الاقتراع في انتخابات نزيهة- سمحت الفيفا لاتحاد الكرة التشيلي باقامة مباراة ضمن التصفيات المؤهلة لكأس العالم على نفس استاد كرة القدم الذي كان مركزا لاعتقال وتعذيب عشرات الآلاف ممن خرجوا احتجاجا على سيطرة الجيش على الحكم والاطاحة بالدولة المدنية ..
وفي مشهد سريالي لم يسبق أن تكرر في تاريخ الساحرة المستديرة تقام مباراة لكرة القدم بين فريق واحد فقط!! و بامعان في الهزلية يتقدم مهاجموا المنتخب التشيلي لتسجيل هدف في مرمى فارغ! وتنتهي المباراة التي رفض الطرف المنافس(منتخب الاتحاد السوفيتي في حينه) أن يلعبها احتجاجا منه على الاطاحة بحليف له عبر انقلاب ممول و مخطط من وكالة الاستخبارات الأمريكية سي اي ايه
في الثلاث سنوت القادمة سيقوم الجنرال بينوشيه باعتقال و تعذيب و واغتيال ما يزيد على 100 ألف مواطن تشيلي وسيواصل اغتصابه لارادة الشعب التشيلي لما يقارب الثلاثين عاما الأخرى
- الأرجنتين -
في عام 1976 ثلاثة جنرالات من الجيش الأرجنتيني و بقيادة الجنرال "خورخيه فيديلا" يطيحون بحكم "ايزابيلا بيرون" لتبدأ مرحلة بائسة من تاريخ الأرجنتين وتصل الى قمة بؤسها في نهائي كأس العالم الذي توجت به الأرجنتين عام 1978 حيث كانت صرخات الجماهير المجنونة في استاد مونيمنتال تطغى على أصوات المعتقلين السياسين الذين يملؤون معتقلات الديكتاتور فيديلا والتي كان بعضها ملاصقا لملعب المباراة النهائية .. في هذه الحقبة السوداء من تاريخ الأرجنتين قتل واختفى الآلاف في ظروف غامضة وأعدمت مئات النساء الحوامل في المعتقلات بعد انجابهن لاطفال تم توزيعهم لاحقا على عائلات من المؤسسة العسكرية و عائلات و مؤسسات امريكية على صلة بضباط من الجيش الأرجنتيني
بالرغم من حبي الشديد لكرة القدم الا أنه لا يمكنني التغاضي عن فكرة كون بطولة كأس العالم احدى شبكات الانقاذ التي تستغلها الأنظمة القمعية عادة لالهاء الشعوب المستعبدة عن قضاياها الأساسية كالمطالبة بمزيد من الحريات أو حتى بقليل من العدالة الاجتماعية.
ومما يساعد هذه الأنظمة في استغلالها لرياضة نبيلة مثل كرة القدم عوامل عدة أهمها الشعبية العالية التي تحظى بها هذه الرياضة. فهي لعبة الفقراء والاغنياء على حد سواء. كما أن هذه الرياضة تتيح لأنظمة الاستبداد دخولا سلسا لقلوب وحياة الجماهير المستثارة وطنيا من خلال حملات الدعاية الممنهجة التي تمارسها الدولة أثناء البطولة .. فالجميع مطالب بنسيان الخلافات الجانبية و التركيز على تشجيع الفريق الوطني الذي سيرفع علم الدولة (وليس البلاد) عاليا! و لا ضير من وجود الديكتاتور على منصات التتويج وكبار الشخصيات فلربما كان دافعا للفريق لكي يؤدي بشكل أفضل! .. أضف الى ذلك أن لا وقت حاليا للحشود المطالبة بالحريات والحقوق فالحشود المطلوبة حاليا يجب ان تكون مسخرة لتشجيع فريق الدولة الرسمي وترداد السلام الوطني قبل المباريات بدون التدبر في أي من معاني هذا السلام
ان أخطر ما يمكن أن يتسلل الى عقول الناس في مثل هذه الفترات هو أن يعتاد البسطاء على رؤية جلاديهم في صورة تشبههم هم! بينما في حقيقة الأمر لم يتغير شيئ في الوضع القائم .. فالجلاد المتغلب في مكانه.. و الضحية الرافضة (المعلنة عن رفضها) في مكانها أيضا خلف القضبان .. و الضحية الرافضة (الصامتة) في مكانها أيضا أو لربما انحازت قليلا الى جانب الجلاد الذي يتستر بقميص المنتخب الوطني
ويزداد الخطر شيئا فشيئا كلما تقدم المنتخب الوطني باتجاه الأدوار النهائية .. فهذا الانجاز (ان حصل) يستثمر عادة في تلميع الديكتاتور .. فالدولة التي ترعى شبابها و تهتم ببناء فريق وطني محترم و تنجح في ذلك قادرة أيضا على أن تنجح في أمور غيرها و لا بأس ان شاب بعض هذه النجاحات قليلا من الاستبداد و حينها يشرعن القمع و تتضاءل الحريات
وفي حالتنا نحن العرب وبالأخص في حالة منتخبين عربيين اثنين .. فان من الأفضل لو لم نشارك في كأس العالم من أصله. لكن وبما أننا قد شاركنا فالحمد لله على خروجنا بهذه السرعة و بهذا الأداء المخزي على الصعيد الأممي وذلك لأسباب أهمها :
1- لعل هذا الخروج أدعى لقطع الطريق على أنظمة مستبدة و شمولية كانت ستصدع رؤوسنا بنجاحات لا ناقة لها فيها ولا جمل. فكم من مصري كان سيلطم رأسه بحذائه لو سمع أحمد موسى وهو يعزو نجاح المنتخب المصري (ان حصل) لحكمة و قيادة المؤسسة العسكرية و أن هؤلاء اللاعبين ما هم الا أبناء الجيش المصري العظيم .. الى اخر الاسطوانة المقيتة التي مل الناس من سماعها
و كم من سعودي كان سيخرج عن أركان اسلامه عندما يرى تركي آل الشيخ و هو يعزو نجاح المنتخب السعودي (ان حصل) لقيادته الحكيمة هو و ولي نعمته و ولي ولي نعمته,
2- ان ما بني على فساد و فشل لا يمكن أن يقود الى نجاح .. هذه بديهيات يجب أن تترسخ في عقول الناس. لا يمكن لاتحادات و أندية كرة قدم يحكمها أشباه آلهة فاسدة. من رجال اعمال و أمراء و فنانون أن تنتج منتخبا وطنيا قادرا على أن ينافس منتخبات دول اخرى تهتم بلاعبيها و تهتم بمواطنيها قبل ذلك (ولا تلد الحرة الا حرا)
3- حالة الاحتقان أو قل الاحباط التي تسيطر على هذه الشعوب حاليا كان من الممكن ان يتم تنفيسها من خلال انتصارات وهمية في بطولة ستنتهي خلال أسابيع قليلة ... وهذا لم يحدث ولله الحمد .. كنت اتمنى أن أفرح و أن يفرح الناس ولكن الفرح بهذه الطريقة التي لا يرتضي طغاتنا غيرها ما هو الا فرح وهمي لا حاجة لنا به.. فرحنا الحقيقي يوم تشرق الشمس علينا فلا نراكم فيه.