شبكة قدس الإخبارية

الصحفي الفلسطيني من التعبئة الثورية إلى الترويج السلعي

٢١٣

 

حسن صفدي

لطالما كان للصحفي الدور الاهم في صياغة الوعي الشعبي العام في المجتمعات، فقد ساهمت كتابات الصحفيين في تعبئة الجماهير نحو مضامين لطالما صنفت تحت بند المستحيلات، ولكن هذا المؤثر الخارجي المسمى بالوسيط الإعلامي والذي يديره غالباً الصحفيون، كان له القدرة على قلب الموازين وضخ كميات ضخمة من المعلومات الجديدة التي بلورت الوعي الجماعي للجماهير، مما شكل وفي غالب الاحيان سنداً لكل حركات التغيير الاجتماعي المناهضة للأنظمة القائمة، فساهمت تلك الوسائط في إعادة بناء الذاكرة والهوية الجماعية خطابياً من أجل التغيير الثوري في بعض الاحيان، وفي احيان اخرى من اجل تثبيت النظام القائم.

إن التحول الذي شهده حقل الصحافة الفلسطينية كان جذرياً، فبعد مرحلة من سطوة البرجوازية على هذا الحقل قبل نكبة 1948، الى مرحلة التعبئة الثورية العامة وتحول القلم الى بندقية رجت اركان العدو، الى الوقوع الان في دوامة الصحافة الترويجية التي تنشر الثقافة الاستهلاكية. فقد تحول الصحفي الان من مساهم في توعية وبث الثقافة في المجتمع، الى مساهم في الترويح للشركات التجارية، التي وجدها الحاضن الامن له بعيداً عن السياسة، والمصدر المادي الذي يمكنه من تحقيق احلامه المرتكزة بالأساس على المصلحة الفردية.

لا يشكل هذا التحول المهم خطورة على الحقل الصحفي فقط، بل يطال بنية المجتمع، لما لدور اولئك الصحفيين في تعزيز وتقوية هذه البنية التي تحتضن عادة الثورة والوطنين، وترفض كل اشكال التبعية والاستغلال. إن احتضان العاصمة اللبنانية بيروت لعقود طويلة للمقاومة الفلسطينية لم يكن من فراغ، بل شكلت كتابات غسان كنفاني، ماجد ابو شرار، كمال ناصر وطلال سلمان، وغيرهم من الصحفيين دور التوعية والتثقيف للجماهير، مما شكل تاييداً شعبياً لحركة التحرر الفلسطينية في تلك الفترة، التي ربطت في اذهان الجماهير بالاطروحات الثورية التي طالما قرؤوها وسمعوا عنها في وسائط الاعلام المختلفة، وكان لمنظمة التحرير ايضاً دور مهم في ذلك من خلال اعلامها الموحد.

نحن اليوم في امس الحاجة الى هذا الدور الذي يقع على عاتق الصحفي، لأنه يخدم ولو بشكل غير مباشر غالبية الحركات الاجتماعية التي تنادي بالأفكار الوطنية وتنقد الاحتلال، لان التناقض قد يصبح مباشراً بين هذه الحركات والحياة اليومية في "مدننا الامنة"، فخوف احدهم على زجاج سيارته يكون وفي غالب الاحيان اهم من اي شيء يحدث لأطفال فلسطينيين يلقون الحجارة عند أحد الحواجز، او يصبح وصول موظف الى عمله في الصباح اهم من ما يحدث في الخارج من اعتداء للمستوطنين على بيوت الفلسطينيين في شمال الضفة الغربية، إن هذا التناقض يبعد الجماهير عن المبادئ الوطنية ويقربهم من الدخول في معترك الحياة اليومية التي تنقض اي شكل من اشكال اللاستقرار، وهي الصفة التي تحملها غالباً التحركات الثورية او القوى التي تعمل على نبذ النظام القائم.

يساهم قيام الصحفي بالدور المنوط به لتوعية تلك الجماهير في التخفيف من حدة هذا التناقض، فلا تكفي تغطية الاحداث السياسية لتشكيل هذا الوعي العام، بل على الصحفيين استخدام جميع اساليب الكتابة والتصوير والإنتاج الصحفي من اجل ذلك الهدف، لخلق نوع من الترابط الاجتماعي الذي يقلل الفجوة بين من يحمل الافكار الوطنية ويسعى للتغير، وبين ما يشكل همه اليومي الاساسي الوصول للجامعة او العمل او حتى "الكوفيشوب"، لاستعادة التضامن الذي ظهر على المجتمع الفلسطيني ابان اندلاع الانتفاضة الاولى عام 1987.

تبدوا الافكار السابقة مثالية بعض الشيء، ولكن الاهم هنا هو محاولة التغير، فمن الصعب الاستمرار في هذا الوضع الصحفي المخصي، فشكل الصحافة الفلسطينية اصبح شديد البؤس، لان العامل الجندري مثلاً اصبح المحدد الاساسي لجلوسك خلف الميكرفون او امام عدسة الكاميرا، والقدرة على ترديد اسم الشركة او المنتج الفلاني لعدة مرات في الثانية أصبح العامل الاهم في العمل. لقد استفحل القطاع التجاري الاستهلاكي في اختراق الحقل الصحفي الفلسطيني، مما افقد الحقل الصحفي مضمونه، وإرغامه على الدوران في دائرة مفرغة تحمل طابع الصحافة الاخبارية، او الصحافة الترويجية.

إن هذا الدور التوعوي الذي يلعبه الوسيط الاعلامي، يساهم ايضاً في تشكل نخبة طليعية ثورية في المجتمع، يكون لها الدور الريادي في التغيير مع الاحتفاظ بهامش الارتباط الاخلاقي بالمجتمع، حيث ان المجتمع المعبأ والواعي لدور هذه النخبة الطليعية، يستطيع هضمها وتقبلها واحتوائها، مما يشكل دافعا معنوياً ومادياً مهماً لها، فيتحول الصراع مع الاحتلال من صراعات فردية حزبية الى صراع مع مجتمع، وهذا اساس الحرب الشعبية التي تغذيها الجماهير الشعبية المشكلة اساساً بالمجتمع.

إننا بحاجة الان وأكثر من اي وقت مضى، لإنتاج خطاب اعلامي يليق بمكانة قضيتنا الفلسطينية، فعلى الصحفيين الخروج من الاطار السائد في المجتمع الاستهلاكي الفلسطيني الان، والقائم على المؤسسات غير الربحية والشركات الخاصة، التي غيّرت شكل الوعي الجماعي للفلسطينيين، وجعلتهم على هامش العمل السياسي المجتمعي بعيدين كل البعد عن الطبخات السياسية التي تحتكرها نخب الاحزاب. إن اعادة المجتمع الفلسطيني بكافة فئاته الى الدور الطليعي يمهد لعودة لكافة اشكال التضامن الاجتماعي، الذي يكون ممهداً لخلق طليعة ثورية فلسطينية تحقق ما عجز عنه السياسيون منذ السيطرة على القرار الفلسطيني بعد اتفاق اوسلو.

علينا ان نؤمن بأنفسنا وبدورنا في التغيير ولو بَدت النتائج مؤجلة، علينا ان نستعيد دور الصحفي الفلسطيني في التعبئة الثورية وحشد الرأي العام العربي والعالمي، وفي اختراق وسائط الاعلام بلغته القوية وثقافته العالية، التي مكنته من رفع القضية الفلسطينية الى المنابر العربية والعالمية، وساهمت في تشكيل البنية المجتمعية التي ساعدت الفدائيين الفلسطينيين اينما حلوا .