منذ سبعين عامًا، وراية العودة مشرعة على مستوى الايمان الشعبي، وبرامج القوى السياسية، والمؤسسات الأهلية؛ إنما العودة نفسها لم تصبح مشروعًا شعبيًا أو سياسيًا أو حقوقيًا في الممارسة والتطبيق، بهذا المعنى، تجيئ "مسيرة العودة الكبرى" –رغم التحفظ على مصطلح الكبرى- لتشكل نقطة تحول استراتيجي في مشروع التحرر الفلسطيني، شريطة عدم تحويلها إلى مناسبة وطنية "إحيائية"، على نمط ما يعرف بـ "إحياء ذكرى يوم الأرض"، او "إحياء ذكرى النكبة"، أو احتفالات ذكرى انطلاقات القوى السياسية. وبالتأكيد، فان هذا يقتضي بالضرورة التعامل مع المسيرة بمنهجية غير تقليدية عبر توفير أسباب الديمومة لها، والقابلية للمراكمة.
ضمن حركة مقاومة نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا انتهت "حملة التصدي" التي قادها حزب "الوحدويون الأفريقيون" واتخرط فيها كل من المؤتمر الوطني الافريقي، والحزب الشيوعي في الخمسينيات من القرن الماضي بمجزرة شاربفيل في عام ١٩٦٠. حملة التصدي تلك، كانت حلقة في نضال جنوب الأفريقيين لإنهاء نظام الأبارتهايد، ولكنها لم تكن لتؤدي إلى ما أدت اليه انتفاضة سويتو ما بين ١٩٧٦ و١٩٧٧ لأسباب أهمّها، عدم وجود رؤية شاملة لحل الصراع جذريًا، وعجز الأحزاب عن توفير عوامل ومفاعيل الاستمرار. وجراء وحشية القمع، كان من أكبر أثارها السلبية على الجنوب أفريقيين الانتكاسة السيكولوجية– الاجتماعية التي عمّقت من الشعور بالعجز، والدونية، وعدمية النضال بدل التحفيز على المواجهة.
أن انتفاضة سويتو التي لعبت فيها "حركة الوعي الأسود" بقيادة ستيف بيكو ما كانت لتكون لولا إعادة تعريفها للمستعمر ونظام الأبرتهايد، ولولا إحيائها لثقة الانسان الجنوب أفريقي بنفسه. أن شعار "التحرر بالاعتماد على الذات" إلى جانب شعارات مثل "أفريقيا للأفريقيين"، و"الأسود قادر”، لم تكن مجرد صياغات لغوية، بل برامج تجاوزت الأحزاب التي كانت أما تراهن على تحقيق تحسينات مطلبية وجزئية، أو على تحسين شروط الحوار والتفاوض مع السلطة الحاكمة.
فاذا كان انخراط الحشود الجماهيرية في "مسيرة العودة الكبرى" يشكل دليلًا ساطعًا على استعداد جماهير الشعب الفلسطيني للتضحية عندما تصح البوصلة، فإنه من حق هذه الجماهير ضمان أن استثمار التضحيات لا يكون في مطالبات مجزوءة. وعليه، فان من واجب القوى ليس فقط إعادة تصويب بوصلتها، وتطوير رؤيتها لحل الصراع جذريًا بما في ذلك علاقاتها بالمستعمر سواء المستعمر -السلطة أو المستعمر- الفرد، بل أيضًا ضمان عوامل الاستمرار لمسيرة العودة، لكي تكون المسيرة الكبرى. وغني عن القول، أنه أذا كان تطوير الرؤية وتصويب البوصلة يحتاجان إلى وقت ولا يكونان دفعة واحدة، إلا أن عوامل ضمان الديمومة مطلوبة حالًا، على الأقل لتفادي تعميق الانتكاسة في الشعور الفردي والجماعي لأبناء الشعب الفلسطيني. أن شراسة القمع الإسرائيلي للمسيرة السلمية لا يهدف إلى القتل بذاته، بل يهدف من وراء ذلك إلى إعادة الفلسطيني إلى حالة الصدمة– الخوف، العجز، عدمية المحاولة وعبثية المقاومة.
لسنا بحاجة إلى حالة صدمة جديدة تستنزف الشعب الفلسطيني سبعين عامًا أخرى كي نرى أن العودة أقرب إلينا من أي اتفاق سياسي، أو حل دولي، والأهم أكثر كرامة من أي منحة من أي دولة سخية أو مقعد في كنيست أو في الأمم المتحدة، أو بيان إدانة أو تعاطف من هنا أو هناك.
بكلمة، على كل وطني فلسطيني - أكان حزبًا، أو مؤسسة أو فردًا إبداع وسائل وأنماط حركة العودة. نحن ما زلنا بحاجة إلى إعداد أكثر تنظيمًا للوصول إلى مسيرة العودة "الكبرى"، ولكن هذا لا يعني الوقوف مكتوفي الأيدي بانتظار ذلك اليوم. ليس المطلوب استنزاف الذات للحظة، ومن ثم النكوص بانتظار "إحياء الذكرى" عبر السنين. إشغال قوات الأمن بمحاولات العودة بالعشرات على طول الخط الأخضر، الاختراقات الفردية، نصب الخيام على جانبي الخط الأخضر، مجرد التجمع على جانبي الخط الأخضر أو على الحدود مع دول الجوار، أو مجرد تعليق العلم الفلسطيني على جدار أو قبالة مستوطنة، أو مجرد استبدال لافتة ووضع الاسم العربي للشارع والقرية،... الخ قد يدفع ثمنه أفراد، ولكنه سيقود إلى تعميق حركة العودة على شكل حراكات ومؤسسات منظمة لا يجدي معها "مفاعل ديمونا".
إسحق رابين، وزير حرب الاحتلال آنذاك، عبّر عن خشيته من أن تتحول الانتفاضة الفلسطينية الأولى إلى حشود زاحفة عابرة للحدود باتجاه "إسرائيل"، لذلك، هنأ نفسه وحزبه و"إسرائيل" بعد إخماد الانتفاضة بتبادل رسائل الاعتراف مع منظمة التحرير الفلسطينية، مؤكدًا أن مجرد الاعتراف يجنّب "إسرائيل" خطر زحف الفلسطينيين في يوم من الأيام عبر الحدود.