شبكة قدس الإخبارية

الملامح الضائعة

٢١٣

 

وفاء وشاحي

عندما تسقط الأرقام، ويهزل معنى السنوات، عندما نبكي دموع العمر كاملةً في أيام فلا يبقى أمامنا إلا دمُ القلب.

مكالمة دموع واحدة خلال ذلك العمر المقطوع، قال فيها جدي: (بعرفش إشي، إخوتك بعرفش إذا همي في السما أو الأرض).

أي مصيرٍ ضائعٍ هذا؟ ماذا على أمي أن تفعل؟ أتبكيهم، أتهرعُ إليهم؟ ولكن لا طريقة إلى تلكَ البقعة المشكوك في وجودها على الخارطة.

المذياع يُعلن نبأَ ارتقاء الشهيدة  (خضرا وشاحي)  على أرض مخيم جنين،  يعلو نشيج أمي، تعصرُ ذاكرتها، تشكُ في عقلها وما يحملهُ من أسماء، قد تكون لشدةِ كمدها و حزنها أضاعت بعض الذكريات، تصمتُ قليلاً، من هيَ الشهيدة؟ تبدأُ بحصرِ الأسماء،  تتذكرُ عمتها (مريم) نعم العمة التي اعتاد الغريبُ قبل القريب الإقبال على موائدها التي لا تتوانى عن إعدادها , فتدعو عابرَ السبيلِ مبتسمةَ القلب و الثغر.

(أم مروان) المحطة الأولى للأقارب و الأحباب تأكد الخبر، حيثُ استُشهدت  و آثار العجينِ على يديها الطاهرتين، وقد انشغلت منذُ الفجرِ في التحضيرِ لإطعام المقاومين دون أن تعلم أن فلذةَ كبدها قد ارتقى إلى السماوات العلى قبل ذلك بيوم واحد، يا رب الصبر.

(48) ساعة وهي تنزف لا طواقم طبية استطاعت أن تساعدها ولا يدُ صغيرها (المهند) حتى وهو الصغير الذي أبكى القلوبَ و حفّظها قول الجدات (أنا لأبكي و بكّي كل جيلي ... على يلي صارلي من دون جيلي ...والله يا دموع العين هيلي على يلي بدا تحت التراب)

(مريم كانت تلك الصرخة التي فقأت كيس الألم المحتقن فيّ) مهند وبعد كل تلك الساعات، الأيام، الشهور، السنوات،  يعود ليمسك (مريمتهُ) بقوةٍ أكبر، ليضمها لصدرهِ من جديد، ليحدثها عن حبهِ  بكلمات مفهومة فيها من الدموع ما يروي الفؤاد السقيم.

قبل ثمانية عشر عاماً كانَ طفلاً لا يعرف من الحياةِ أكثر مما ترويهِ الأمهات عن (عالم الكبار) لم يكن يعرف أكثر من أمهِ (مريم) كطبيب لجروح الحياة و الأيام فكانت مدافعهُ الأول، و حصنهُ المنيع عندما تشتعلُ مناكفات الإخوة،  كانت يدُ السماءِ  لتمسحَ وهنَ القلبِ في تمتمات.

كانت أمانَ العالم في تلك الحرب الضروس ولكنها لم تسلم فجأة دخان يمنع الرؤية ويملأ جو البيت (وين أمي؟)  أمانُ العالم كله أين هي الآن؟ خبز البيت و خيره، مالي لا أراها؟ مريمةُ قلبي تنزفُ على (عجينها المبارك).

مهند ابن العشرة أعوام  يرفع رأسَ أمهِ المصابة؛ مساعداً والدهُ في تحريك الجسد المنهك لشدةِ ما أصابهُ من شظايا يمسكُ بيدها , وماذا يستطيعُ أن يفعلَ ليخففَ من حدةِ ألمها؟ تشدُ على يده تخففُ من لوعةِ قلبه وهي بأمس الحاجةِ لمن يخففُ من وطأةِ الأشياء على قلبها تشدُ مهندها ليقترب تودُ لو تعطيهِ شيئاً يواجه بهِ عجافَ السنين القادمة، ينامُ إلى جانبها يسمعُها تنادي (منير) ولدها الذي سبقها باستشهادهِ دونَ أن تعلم أَتُراها كانت تشتاقهُ أم كانت تراهُ قد سبقها فتحدثهُ ويحدثها عن أيامهما القادمة؟.

الثواني في حسابات الحياة والموت تعني الكثير (48) ساعة وهي تنزف منتظرةً سيارة الإسعاف، (48) ساعة وهو ينظرُ إلى نعمةِ دنياه وهو مُكبلاً قرابة الـ(172800) ثانية من الانتظار، كلفت ذلك الطفلُ ابن العشر سنوات عمراً يحملهُ فوق عمره .

ولأنهُ مهندها - تلك السيدة التي أخالُ أن السابقينَ قالوا فيها: (قولي لزوجك أحفظ عتبة  بيتك) ؛ لحسن خُلقها، طيبِ معشرها وكرم  نفسها-  أكملَ مسيرتها حيثُ حفظَ منهجها في الحياةِ ولم يسقط.

  وقد أصّرَ أن يحددَ موعدَ زفافهِ في مطلعِ شهر نيسان؛ ليثبتَ أن الطريق طويلٌ و موحش  ولكنَ الثباتَ خيارٌ مقدس رُزقَ قبل أشهر قليلة بـِ(مريمتهِ) قنديلِ ليلهِ و مؤنسةِ طريقه ليعلمها أنهُ يملكُ الحياةَ  بشمسها و قمرها، بفرحها و حزنها، ببشائرها و فجائعها يملُكُها كُلُها وأن لم يملك منها شيء لفداحة خسارته.

أُدركُ أن كُل ما أعرفهُ لا يتجاوز شذرات تغطي حواشي الزمن الذي لا يتوقف عندما أتذكر أيامَ الظلامِ تلك – التي أكادُ أجزم أنها خارجَ عن حساباتِ الزمان والمكان التي نعرفها نحن-  أفكر كم مرة نطقَ الأفراد الشهادتين استعداداً لِلقاء الله ؟ كم مرة رفعت النساءُ مناديلَ رؤوسهنَّ البيضاء علها توقفُ الضربَ لحظات؟.

أُفكر كيفَ للإنسانِ،  الذي يعيشُ في إطارٍ جغرافي يضربُ المثلُ في صغرهِ و كثافة ساكنيه، أن لا يعرف شيء عن أخيهِ و جاره؟ مذياعٌ صغير كُلُ ما يصل الإنسان بما يتنفس خارج جدران بيته في حال تبقى جدران أصلاً تخيّل، تمسك المذياع الصغير بكلتا يديك مستغلاً ما تبقى من بطارية،  تشغلهُ لترى ماذا يقولُ العالم عن احتمالية النجاة من الموتِ لكَ و لِأمثالك.

تُلصقهُ بوجهك و كأنهُ  نافذةُ ضوئكَ و هوائكَ الوحيدة صوتُ المذياع المعتاد منذُ أيام، بنفس النبرة المخدرة التي اعتدتها ولكنهُ خللٌ ما أجبركَ على ابتلاعِ ريقك لحظة، ما الذي سمعتهُ بالضبط مستحيل، أنتَ تتخيل ليس إلا نبأُ استشهادِ أخيكَ يُذاع  ببرودةٍ  قاتلة لكلِ ما فيكَ من حواس.

دونَ أن يرتجَ صوت المذيع دونَ أن تقفَ الكلماتُ في حلقه دونَ أن تنقطعَ أنفاسه دون أن يرمِ ولو بكلمة واحدة تشعركَ أن لنا مكان على هذا الكوكب.

دون وعي عليكَ أن توقفَ تلكَ المهزلة بأي طريقة كانت ترمي ذلكَ المذياع اللعين لِتسكتَ أزيز الموت لتحرقَ رائحته ولكنهُ شهيد  تمسحُ وجهك حيٌ  هو من قالَ أنهُ مات؟  قد يكون تشابه أسماء لا أحدَ يعلم شيء عما يجري في الخارج كيفَ وصلهم الخبرُ أصلاً؟.

لابدَ أنهُ تسريبٌ خاطئ" معقولٌ أنهُ تذكرني قبل استشهاده " كيفَ ستقمع تلكَ الأفكار التي ترفض أن تبارحَ رأسك؟ الأجهزة الخلوية مغلقة ولا كهرباءَ لشحنها تبكي، حيثُ لا حيلةَ في اليدِ إلا البكاء وأخيراً لا حلَ سوى توصيلِ بطاريات المذياع المحطمِ من خلالِ بعض الأسلاكِ في الهاتف فتسحقُ الفُتاتُ الذي انتظرَ الالتئام دونَ جدوى.

يُقال إنَ الإنسانَ عاجزُ عن التعبيرِ عن مأساتهِ الكبيرة، اللامتناهية ولكنها عبارة أُمي التي تُرددُها كُلما لمحت خلسةً مشهداً ما من مسلسل الاجتياح  "الحياة بتوقفش "  ... ثم تبدأ بتلك الأنات المسموعة تبكي هنيهة لا أدري إذا كانت تتذكر زيارتها الأولى للمخيم بعدَ الاجتياح أم أنها تبكي شكوكها  أن المكانَ لن يصلحَ للعيشِ بعدَ كل ما حدث أم تُراها تُعايشُ مشاعرَ الفقدِ لِإخوتها الشباب مرة أُخرى،  تضارب لا يغتفر في الأنباء:

أولاً: (شادي مفقود قد يكون أسير وقد لايكون)

ثانياً: (خضر استشهد، حيثُ هناك قذيفة سقطت في مكان تواجدهِ وأصحابه، من المستحيل أن ينجو)

ثالثاً: (فادي لا أخبار عنه).

تتنفس الصعداء وكأنها تحاولُ طرد هذه الأفكار تتمتم بالحمد لله رب العالمين تعاود معركة رأسها الكر و الفر، مشيت بالمخيم، بيوت مهدمة وممسوحة عن الأرض، "بيوت رايح منها واجهتين ولسا مراوح سقفها ثابتة، ناس قاعدين بحكو وبضحكو مع بعض، وأنا الوحيدة اللي كنت بعيط بصوت عالي، لدرجة أنو كان نفسي أصرخ فيهم ع شو بتضحكو".

أمي لم تكن قادرة على استيعاب ما حدث، لم تستطع أن تتقبل كون الحياة مستمرة، وأن ما عايشه الناس من خوف وما اشتموه من موت كان قادراً على تعليمهم الحياة.

بالمناسبة، كُلُ (المريماتِ ) في الحُسنِ آية السلامُ لأرواحهن، ولذلكَ كله (أنا نتاجُ مخيمين ستبقى أصدق تعريف لسؤال من أكون)

  • الشهيدة مريم وشاحي "أم مروان": أُذيع نبأ استشهادها بداية باسم (خضرا وشاحي) دون أن تُعرف أسباب ذلك، ولكني أظن أنه اخضرار الأرواح الطاهرة التي لا يجففها الموت أبداً.
  • مهند: خالي الصغير الذي طلبت منه صورةً لمريم الصغيرة- بعد أن وصلني خبر إشغالها للممرضات في حضانة المستشفى لشدة جمالها-  فأرسل لي ثلاث صور فأجبرتني أن أخبأها في ضلوعي.
  • مها: السيدة الطفلة التي خرجت بعد الاجتياح ترغب أن تبكي منزلها، الذي احترقت بكل ما فيه من ذكريات لأمها فلم تجدها، تفقدت أخوتها مرة أخرى علّ الوقائع تكذب ما سمعت، ولكن هيهات، منير شهيد أيضاً.
  • شادي: أسير لا يعلم مجريات الأحداث وأغلب ما يصله من تسريبات كانت من ذلك النوع الذي يشعل هشيم القلب دون رأفة.
  • خضر: سقطت واجهة أحد المنازل عليه فآذت وجهه هذا ظاهرياً أما عن الفؤاد السقيم ذلك الذي شهد ارتقاء رفقاء الروح و الدرب فحدث و لا حرج.
  • فادي : بالعادة خبر اعتقال أي فرد هو خبر يكدر القلب و يشعل الفؤاد ولكن في حالته كان سبب سعادة عارمة جعلت خاله يذبح خروفاً لمجرد كونه على قيد الحياة حتى لو كان أسيرَ قضبان لا يُعرف موعد كسرها.
  • أم : حتى هذه اللحظة لم تستطع استيعاب الأمور ولم تنسَ ما سمعته من تفاصيل.
  • أنا: لازلت أتذكر جيداً بكاء أمي الذي بدا عالياً بطريقة ملفتة لكل من هم خارج السيارة على الطريق إلى المخيم ثم كلمات السائق الذي حاول أن يهدئ من روعها" خيتا الحمد لله الوضع منيح واليوم أحسن من امبارح شو شفتي خيتا" ولا زلت أتذكر البطانية الكحلية المخططة التي تعاونت على حملها سيدتان بما فيها من بقايا ملابسٍ انتُشِلت من بين الأنقاض؛ لإيصالها إلى أصحابها الغرباء في بيوت الأقارب و الجيران.