شبكة قدس الإخبارية

يسألونني فأجيب: "هذا ملاكيَ الجميل أحمد"

قتيبة قاسم

توارت تحمل جرحها ومضت تلوّح بكفٍ مثقل بالحزن والألم، دموعٌ لم تهدأ مُذ لاح إلى ناظريها قميص الغياب والفراق أحمراً قانياً، ماذا ينفع الكلام وهل يُجدي حديث المرء عن النجوم الباسقات وعن ركامٍ من الذاكرة المتوقفة عند كومة شوق ولحظة عشق...

كان جميلاً، كان لطيفاً، كان مصحفاً نقرأ بين آيه تراتيل الجمال، كان مرآة لذلك الحب الدافق من قلب الأم يفيض من نبع حنانها ويتبادل الشوق مع المعلمة الأولى في ربوع المدرسة الحاضنة وأكنافٍ من الود وأقحوان الفخار...

توقف الدمع ينتصف الحكاية ببسمةٍ تُبرق شيئاً من الفرح تستلهمه من بعض رُقاد الذاكرة المترامية في أطراف الحكاية المهرولة إلى الغياب، لضمّة وردٍ تفنّن في تحضيرها لأجلها مِراراً لكنما أغدقت من جمال طلعته شيئاً من البهاء لتلك الباقة وهو يملأها من وده عشقاً في يوم مولدها، أودعَ تلك الورود صورته في ثناياها، يحفر في أوراقها النديّة لحظة تناجي تلك اللحظات والعبرات حين لا يجيء ..

وعاد الدمع بعد برهةِ الفرح المجتزأة وهي تشير إلى أماكن الرصاص الذي فتّت عظام نجلها، والبنان يقسو حين يشير وهو يفتح جرحاً كلما هدأت ناره تأجج من جديد، ويكأنها تصرخ بوجعٍ يخترق المدى: ليتها كانت لي وليتها ما نالت من عظامك الطرية يا ولدي...

أتذكر يا ولدي يوم كِدتُ أفارق هذا الضياء، يوم أن وضعتُك فكادت روحي تتوارى وترحل عن الوجود فشاء الله لنا وإياك عمراً حتى أراكَ شهيداً فنجونا للحظةٍ حان معها القطاف، عاودني الحنين إليها، فأشفقتُ على نفسي حين أراك تسبقني...

وهل أنساكَ يا ولدي، وأنا أملأ عينايَ من نور شعّ من طلعتك البهية مُذ كنتَ صبياً، أُخفيكَ وأداري طلعتك عن تلك النسوة اللاتي ما إن رأينك لم يُشحن بأعينهن عن جمال وجهك ويسألنني، أي ملاكٍ هذا، ويسألنني عن اسم طفلتي الصغيرة وما دَرَين أنك يوسفي الجمال كطلعة البدر في فلق الصباح، فيقسم لهنّ لساني: "هذا ملاكيَ الجميل أحمد"

كم كنتَ سهلاً ليناً سمحاً تصافح الجميع بقلبك يسبقه الطلعة التي تُشعّ في الوجود وكذا كنت في ربيع العمر وبهائه، وهل أنسى حبك للمفاتيح تجمعها وتحتفظ بها فأضحيت مفتاحاً لكل خير مغلاقاً لكل شر تسعى بفؤادك الغضّ الطري لأن تكون مشعلاً للخير على الدوام.

ما أجمل الفجر يوم كان يتزيّن بهمتك، هل كنتُ أحتاج لأن أصحوَ باكراً أكثر من ذلك كي أمتّع ناظري برؤيتك لحظةً فوق تلك اللحظات، لم تكن بداهتك وسرعتك وحركتك الدؤوبة لتمهلني كثيراً يا ولدي وأنت يجتاحك الشوق للصلاة في المسجد برغم المطر المنهمر فوق الرؤوس وبرد كانون القارص، لكم تمنيت أن أكون غطاءك حين تذهب وتجيء وأنا أرقب طريقك إلى المسجد بعيني وقلبي والدموع.

أوَتذكر يا ولدي تلك الزهور اليانعات تحملها في كل يوم لي، أرى بياض أسنانك ولمعة الحب في روعة ضحكتك وأنت تناولني قلبك إياها باسم الثغر ولسان حالك: الورد لا يليق إلا بالورد، أعطيتني الكثير وأنا أردّ إليكِ طيفاً يسيراً من فيض حنانك ولمساتك الحانية، كلمات لا يزال صداها في أذني.

يا ولدي ، عتبٌ على جرحي وروحي وأنت تمضي دونما أن تمنحني المزيد من الوقت كي أراك، كي أرى ملامحك للمرة الأخيرة آخذها فأزرعها في ربيع قلبي أمتّع بها ناظري إلى الأبد، أفسح لها في حنايا القلب أزمنة وأمكنة في بياض عيوني ومهجة روحي أسقيها من تلك النظرة كي لا تذبل.

ليتني تمهلت في إجابتك وأنت تراودك أسئلة كنت أظنها طارئة عليك عابرةً لطفل لم يدرك كنه الإجابة بعد ولم أدرك وقتها أنك علمت عنها ببصيرتك قبل إجابتي بكثير.

ها أنا اليوم أفتح شريط الذكريات وأصول وأجول في بستان من الورود زرعتها في حنايا القلب ألمح في بعضها وجهك يملأ شاشة هاتفك وأنت تجول في ساحة عشقك الأبدي في ميدان الأقصى، تودّع بقاعها الطاهر وتترك لنا من عبير الذكرى ورداً يفوح عطره قدسيّ الهوى وآليتَ معراجاً ليس بعيداً عن حلمٍ أشاح لوجهي بعد وقت قصير، لخُضرةٍ كنت تتوسطها ويتحلّق حولك العلماء والشهداء .

وأواصل السير على خَطوِ الذكرى أسابق الزمن مرةً إلى الأمام وأخرى إلى الوراء، وأمضي في طريقي نحو سيلٍ من الأشواق لقُبلةٍ أرست ترانيمها على وجنتيّ وعزفت من بعدها لحناً يتوق إلى السُقيا قد فرّ من الظمأ، ألا فلتعد يا بني، فقلبي ينتظرك وينتظر الورود التي لا تعرف الظمأ منذ أن رويتها بدمك، وببسمتك، لستُ أقوى على الغياب عاماً آخراً ووجعاً يخترق الفؤاد كل حين...