تحرص كل دولة أو جماعة مسلحة بعد فض الاشتباك مع عدوها على نشر صورة ما تثبت انتصارها وتفوقها في المعركة، تعمل على تكرارها مئات المرات حتى تترسخ في العقلية الجمعية، فمشهد سقوط تمثال صدام حسين عام 2003 وسط بغداد ووضع العلم الأمريكي على وجهه كانت إشارة أمريكية مقصودة، لها ما بعدها.
وفي حرب غزة الأخيرة عام 2014، بدت صورة مقاتلي القسام وهم يضربون بأعقاب بنادقهم أحد جنود الاحتلال وهو جاثٍ على ركبتيه أمامهم في قاعدة "نحال عوز" العسكرية بعد اقتحامها عبر نفق، علامة فارقة في المواجهة، وأثبتت قوة ضربات المقاومة وجرأتها.
واليوم تضيف أمهات ستة شهداء صورة جديدة في "ألبوم" النصر، حين وقفن بالأمس أمام بقايا وأطلال منزل عائلة الشهيد جرار في جنين الذي دمرته جرافات الاحتلال وصواريخه، الصورة اختصرت المشهد السياسي والإنساني وحملت في طياتها الكثير من الرسائل (ألم يقولوا رب صورة خير من ألف كلمة)، بطش إسرائيلي متواصل يقابله صمود فلسطيني منقطع النظير.
فوق قبة الركام تربع علم فلسطين يميل مع الرياح حيث مالت، في حين وقفت الأمهات منتصبات القامة، يقاومن ريح الاحتلال، لم يتوشحن بالسواد ولم يلطمن الخدود، وقفن وقد بدت على وجوههن علامات التحدي والصبر، هكذا قالت لغة أجسادهن، كل واحدة منهن فقدت فلذة كبدها بطريقة مختلفة عن الآخر، وكل واحدة منهن لها مع ابنها ألف قصة وحكاية.
يقلن إنهن أتين لجنين مهنئات ومباركات ولم يأتين معزيات أو نائحات، مفتخرات لا ثكلاوات، لم يأتين لمواسات بعضهن بل لشد أزر بعضهن، يقلن إنهن صرن كالاخوات بل أعز، عانين من بطش الاحتلال وظلمه ولم يرفعن الراية له.
والدة أحمد نصر جرار، الشهيد الأنيق الوسيم، الذي ذاع صيته وتردد اسمه على ألسنة الملايين، ووالدة الشهيد أحمد إسماعيل جرار، الشهيد الذي وقف متراساً بمسدسه أمام جنود الوحدات الخاصة يغطي انسحاب ابن عمه، ووالدة باسل الأعرج، المثقف المشتبك الذي اغتاله جنود الاحتلال العام الماضي وسط رام الله على مقربة من مقر المقاطعة، ووالدة عبد الحميد أبو سرور، الذي نفذ عملية فدائية في إحدى الحافلات الإسرائيلية قرب مستوطنة "غيلو" جنوب القدس عام 2016، ووالدة الشهيد المقدسي محمد أبو خضير، ذلك الفتى الذي اختطفته مجموعة من المستوطنين وأحرقوه حياً عام 2014، ووالدة الشهيد مهند الحلبي رام الله، منفذ عملية الطعن الشهيرة على بعد أمتار من المسجد الأقصى عام 2015.
هؤلاء الشهداء رسموا بدمائهم مسلك عز وفخار من الخليل جنوباً حتى جنين شمالاً، عكسوا التنوع السياسي والاندماج الفكري، منهم الحمساوي ومنهم الفتحاوي ومنهم اليساري، كلهم اتفقوا على فكرة المقاومة ولكنهم اختلفوا في الأسلوب، بذلوا وسعهم وأعدوا ما استطاعوا، منهم من قاوم بالبندقية ومنهم من استخدم السكين، ومنهم فضّل الحزام الناسف.
كل واحدة من هؤلاء الأمهات تكتفي عادة بتعريف نفسها بأنها أم الشهيد فلان، ولا تتبع تعريفه بانتمائه السياسي، وتقول "ابني فداء لفلسطين.. كل فلسطين"، هؤلاء الأمهات لم يكتفين بترداد شعارات الوحدة الوطنية بل عشنها واقعاً.
هؤلاء الأمهات كن يتمنين بكل تأكيد أن يرين أولادهن في "بدلة" الزفاف وليلة الحناء، غير أن عرس الشهادة كان أقرب، ولون الدم كان حناؤهم، فالحرية لا تمنح بل تنتزع، والانتزاع هذا لا بد أن يكون مصحوباً ببعض التضحية والألم.
هؤلاء الأمهات هن جزء من المشهد النسوي الفلسطيني وليس كله بالطبع، فإلى جانب أم الشهيد ووالدة الأسير وزوجته، تبدو الفلسطينية المتعلمة في خلفية المشهد وخارج إطاره، منها الطبيبة والمهندسة، ومنها المعلمة والمحامية، منها الفنانة والرسامة، منها الصحفية والكاتبة، يكملن بعضهن فتبدو صورة جنين مكتملة وإن كانت ناقصة.