شبكة قدس الإخبارية

عن دوامة المصالحة واليأس منها

براء عياش

كنتُ قد بدأتُ كتابة هذا المقال قبل إعلان حركتي فتح وحماس تشكيلَ حكومة موحّدة خلال ثلاثة أشهر.. و لقد بدأت أشعر -الآن- أنّ هذه "مؤامرة" عليّ ، كي لا أنشر ما كتبته قبل هذا الاعلان ! و على كلّ حال ، فإنّه عندما يتم ذكر المصالحة، ونشر أخبارها.. فإنّ ردود أفعال معظم الشعب الفلسطيني تتلخّص باليأس من مثل تلك المصالحات، فقد أدمن المواطن البسيط سماعَ الكلمات الرنّانة الطنّاتة عن هذه " المصالحة" ، فهي: إمّا قد تأجّلت، أو تعرقلت، أو ألغيت، أو هي على وشك الانجاز قريباً ، أو هي ليست قريباً، أو هي قد تم الاتفاق عليها ، أو هي ستعلن بعد أسابيع، أو هي تمّ الاختلاف عليها! " إنني أريد -هنا- أن أساهم بقسطي في فهم للأسباب التي تؤدي إلى فشل المصالحة الوطنية ، و تودي بنا إلى الدوامة التي يعيش فيها الشعب الفلسطيني ..و إنني أريد -أيضا- أن أدحض تلك الفكرة الكاذبة التي يحاول البعض الترويج لها .. و فحواها أن "الأنقسام عمره ستّ سنوات فقط!"... و أنّه هو "الوحش الذي افترس القضية الفلسطينية وسبب ما نحن فيه من ويلات!"... و أن "الوحدة الوطنية هي الحل وهي المنقذ!"... و أنّ "معجزة ستحصل حين تتحقق المصالحة!" الخ... إنّ فهم المشكل -أيّ مشكل- يستدعي بالضرورة فهماً لأسبابه و لجوهره ، حتى نستطيع تفكيكه ، فالوصول إلى حلّ مأمول له. و بالعودة إلى أساس الانقسام الفلسطيني ، و إلى أسبابه .. تتراءى لنا روايتين للمسبّبات : فإذا استمعنا إلى تصريحات قيادة السلطة و تحليلات حركة فتح، فإننا سنجد أن الانقسام هو عبارة عن "الشرخ الذي حصل بعد إنتخابات 2006 ، وما حدث بعد ذلك من تبعات"... أي أنهم يلخصون الانقسام في مسألة "السلطة والتمثيل" فقط ، من دون التطرق - بأي شكل من الأشكال- للأمور الأهم من التمثيل و المناصب... أعني تطلعات الشعب الفلسطيني ، وما يطمح إليه ، حقاً ، من كرامة و حرية و انعتاق... ثمّ إنّ رؤية السلطة للخلاف لا يشمل مراجعة لمستوى سقفها السياسي ، وهل أنه يلبّي تطلعات هذا الشعب المكافح أم لا ؟؟ ( علماً أني أراهن على أن سقف الصهاينة لشعبنا هو أعلى من سقف سلطتنا لشعبها.. و هذا من مفارقات الأمور!) و على هذا الأساس ، الذي بيّنته ، يتم الترويج في أوساط السلطة أن الحل الوحيد للانقسام هو انتخابات رئاسية وتشريعية فاصلة !.. و لكن هل هذا هو الإنقسام حقاً؟.. أم أنه التفاف قبيح على الاختلاف في حقيقة دور السلطة ، و على مصداقية التمثيل الذي تروّج له؟.. ثمّ هل أنّه بمثل هكذا "التفافات" تحل "الخلافات" ، و تتم اللحمة الوطنية؟! المعطيات على أرض الواقع تقول بوضوح أن الانقسام الفلسطيني ليس انقساماً على السلطة، بل هو انقسام على أهدافها و أفكارها و وسائلها ... إن الانقسام بين حماس وفتح، يعود إلى ما قبل الانتخابات السابقة بوقت طويل.. إنّه يعود إلى زمن الاعتقالات والمطاردات المؤلمة لبعض الفصائل المعارضة و المجاهدة ... وكلنا يعلم ما حدث عام 1996 وما صرّح به الجبالي حينها، يوم أعلن بشكل واضح توجه السلطة لإنهاء كل من يعارض أوسلو .. و كلنا يذكر أيام التعنّت ، و التشنج ، و الفرض ، والزعم بأن منظمة التحرير هي "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني" رغم كلّ "مبادئها" المحرّفة التي لم ترضَ بها حركات حماس و الجهاد الاسلامي والكثير من أطياف الشعب! لأجل هذا ، فإنني أعتقد أن الانتخابات ما هي إلا تقزيم خطير للمصالحة الوطنية، وهي مجرد إعادة لنفس السيناريو الفلسطيني البليد الذي يريد أن يرجعنا ثمانية أعوام للوراء فقط !.. إنه مخطط يهدف لتلميع مشروعية السلطة المهترئة ، فلا يكون حينئذ انقسام في تمثيلها ، وليكن بعد ذلك انقسام هائل في الشارع الفلسطيني! إنّه من بعد سيطرة حماس على قطاع غزة ، سيكون من المستحيل إقامة انتخابات في ضوء الإنقسام المتواجد في الشارع حالياً .. فإذا أجريت هكذا انتخابات ، بمثل ما عليه الظروف اليوم ، فسيتكرر حينها سيناريو ما بعد اتفاق مكّة مرّة أخرى يِلا شك!.. فلا يمكن لهذا الشعب أن يكون الممثل السياسي له مختلفا مع المقاوم فيه .. بل أنهما يسعيان لتدمير بعضهما البعض!.. بل يجب أن يكونا على نفس المضمار ، و في نفس الإتجاه .. ولا يمكن للتوافق أن يكون بين برنامجين متناقضين (برنامج يدعو للمقاومة المسلحة لأجل تحرير الأرض ، و برنامج يدعو لاسقاط المقاومة لأجل "الحل التفاوضي") .. فإنّ مثل هذا التوافق هو كالخلط بين الماء والنار في داخل قنينة واحدة !.. و إنني أفهم أن يكون التفاوض مكمّلا للمقاومة و عملها ، ولكن لا أفهم أبداً أن يكون التفاوض بديلا عن المقاومة و عملها!.. و إنّنا ما سمعنا في التاريخ شيئا كهذا قطّ ! .. أذكر في هذا الصدد حادثة ذات دلالة.. فلقد ذكر المفاوض الأمريكي ، إبّان نهاية الحرب في فيتنام ، أن المفاوض الفيتنامي وضع شروطه منذ ساعات الحرب الأولى، وكأنّه قد إنتصر في تلك الحرب لا محالة!.. و لقد نال الفيتناميون ما أرادوه في النهاية ... و إن التوافق الوطني لا يكون إلا بين ندّين متكافئين يحترم كل طرف منهما شرعية الآخر و شعبيته .. و لا يكون التوافق بين حركة شعبية مقاومة ، وبين سلطة مفروضة سياسيا ، وأمنيا ، وماليا من قوى خارجية (بعضها هو المحتل نفسه) .. ثمّ هي ، و من هذه القوى المعادية ، تأخذ جميع تمويلها ، و تجهيزها ، وتمثيلها... وكل ما يصدر عنها من قرارات أو أفعال لا بدّ يخضع للرقابة من قبل تلك الأجندة الخارجية .. إنّ هذا ليس بتوافق ، أو لنقل هو "توافق" بين العملاء و الشرفاء ، و هذا لا يجوز أبدا ، لا عقلا ، ولا شرعا... إنّه مجرّد سيرك إعلامي ، ونفاق سياسي ، ثمّ إنّه لا مصلحة فيه أصلا ! إنّ تمثيل الشعب يأتي من تمثيل متطلبات الشعب وما يريده وما يطمح إليه، وليس كما يرى بعض القادة ويظنّ أن له الحق بالتصرف بالقضية الفلسطينية بكل تعنّت ، و من دون رجوع للشعب في الأمر . و لهذا فإن انفراد فصيل سياسي لوحده بالقرار الفلسطيني هو إجحاف بحق الشعب و قضيته ، واستحداث لحالة انقسام جديدة أو تكريس لحالة قديمة.. فليس من حق أحد أن يقرر من تلقاء نفسه مصير الشعب بأكمله! آن الأوان كي يفهم بعض المسؤولين أن هنالك أطيافاً أخرى من الشعب يجب أن تشارك في تقرير المصير، وأن مستقبل الشعب الفلسطيني ليس حكراً على فصيل واحد ، أو اثنين! الحل قد يبدو صعباً لكن لا بديل عن اجتماع الفصائل تحت مبادئ واضحة جداً ، لا تقبل التأويل والتعديل، كمبادئ الميثاق الوطني (قبل تعديله !) ، و يجب أن يكون التوافق الوطني بعيداً كل البعد عن الأجندة الخارجية .. وإن تدخل أي طرف خارجي -غربي أو عربي- للضغط على أحد المتحاورين يعني بطلاناً للحوار ، وتخريبا له.. و إن التوافق الوطني لا تقرّه حركتان سياسيتان بمفردهما.. فالفلسطينيون أغنى في أحوالهم ، و ميولهم ، و شؤونهم من ضيق هاتين الحركتين .. فلا بد أن يتوسع الوفاق ليشمل بحواره العامّ جميع الفصائل ، و ألوان الطيف الفلسطيني .. و هذا الطيف لا يشمل السياسي لوحده ، وإنما يشمل جمعيات المجتمع المدني ، و الفعاليات الاقتصادية ، والشخصيات الثقافية و غيرهم ... ثم ليُطرح كل ما اتُفِقَ عليه في استفتاء شعبي عام ، و ليصادق عليه من في الداخل والخارج ، فإنّ الشعب الفلسطيني أكبر من أن يحصر في الضفة وغزة .. و إن اتفاقا كهذا قد يشكل المستقبل للقضية الفلسطينية ، لا بدّ أن يشترك فيه كافة الشعب لتقرير مصيره . و إنه لا مناص من إصلاح منظمة التحرير ، وطرح ميثاق جديد يلبّي تطلعات الشعب الفلسطيني ، وتلتف حوله كافة الفصائل.. ذلك أن منظمة التحرير هي إنجاز من إنجازات الشعب التاريخية ، وليس من الحكمة هدمها ثمّ التشاجر على أنقاضها ، بل يجب الإستفادة منها قدر الإمكان . تبقى مسألة الإنتخابات.. أولاً : يجب التأكيد على أن الإنتخابات ليست غاية في ذاتها ، بل وسيلة لتحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني . ثانياً : يجب إحترام قرار الإنتخابات والتأكيد على عدم تكرار ما حصل عام 2006 وإلا فلا فائدة من إجراء الإنتخابات. ثالثا : يجب أن تجري الإنتخابات في ظروف ديمقراطية سليمة وأن لا تخضع لضغوطات داخلية أو خارجية ، سواء كانت ضغوطات أمنية أو إقتصادية أو نفسية .. رابعاً : لا يمكن إجراء الإنتخابات تحت حصار إقتصادي خانق وتهديد بلقمة العيش . خامسا : يجب أن لا يكون هنالك إنفراد بالقرار الفلسطيني ، بل يجب ان يكون هذا القرار بيد مجموع النواب الذين انتخبهم الشعب لتمثيله ، لمدّة زمنية محددة ، و بعدها يرجع التفويض لأصحابه ، حتى يقرروا لأنفسهم من جديد ، ما يصلح لهم. سادساً : تكون السلطة للحكومة التي يتوافق عليها المجلس التشريعي ، لا للرئيس .. ويمكن للأخير أن يكون له صلاحيات النقض في بعض القرارات التي تحتمل الخلاف و التباين ، أو في القضايا الجوهرية الحسّاسة ، على أن يرجع في الأمر حينئذ إلى مؤسسة سيادية مستقلة كالمحكمة الدستورية ، أو للشعب نفسه ، في استفتاء عام . في النهاية يجب أن يكون هنالك مشروع وطني وهدف أوحد تسعى كل الفصائل لتحقيقه .. و يجب أن تكون الوحدة الوطنية على أساس مصلحة الوطن.. وعلى أساس عدم التفريط بشبر واحد من أرض الوطن.. و على أساس التمسك بالقدس .. و على أساس أن لا فرق بين تراب الوطن .. و على أساس حق العودة الكامل.. و على أساس أنّ كل ما تقدّم ذكره ، هو مقدّس لدى الشعب الفلسطيني. وسيبقى السؤال: هل سنظلّ شعباً يعيش تحت مسميّات لا علاقة لها بالواقع؟!.. فـ"المجلس الوطني"، بينه وبين الوطنية مسيرة وطن.. فهو كمثل محارب ضلّ الطريق! و "منظمة التحرير" التي سقط عنها هدف التحرير سهواً ، وأصبح الهدف منها هو البحث عن أسهل وأسرع حل للوصول إلى دولة! و هل سنبقى نتكاذب على اللاجئين، في حين أنّ الاعتراف بـ"إسرائيل ، دولة ً يهودية" يعني - بالضرورة- نهاية كل أحلامهم ؟؟!! و هل هنالك أي أهمية لدولة فلسطينية دون أن يعود اللاجئ إلى أرضه ؟؟!! و هل سنبقى ندور في نفس الدوامة اللعينة ، أم سنسعى للإصلاح من الجذور، والانطلاق إلى عصر جديد من القضية الفلسطينية يكون فيها التحرير أقرب للواقع منه للخيال !