لأتمكن من الكتابة إليك - في لحظة كهذه - لم أجد أمامي سبيلاً سوى النوم في سريرك العابق برائحتك.
غفوت؛ ففاضت الروح بشحنة العطاء، كيف لا وأنت من قال لهذه الأرض: احتدّي اعصاراً.. امتدّي بركانا.
فيا ابنتي -الجريئة، الجميلة، المنطلقة، الخجوله، التي يليق بها النصر والفرح- أعتذر منك؛ لأنني لم أستطع أن أحمي قبضتك الغضّه من قساوة وجه الاحتلال القبيح، وتركت لك برتقال يافا الحزين في قشوره ينتظر، وأنت هناك في المكان المثقل بالحديد ورتابة الوقت وانعدام الحرية والحب وكل يقين.
هناك في زنزانة على شاطئ بحرنا على أطلال قريه مدمرة مهجرة تسمى أم خالد في طريق العودة إلى حيفا أراني أحمل أشواقي وأنادي من خلف تلك الأسوار: عهد ... عهد... ياعهد.
يا ابنتي يا نسغ روحي:
كل عام وأنت على حق..
كل عام وأنت أقوى وأصلب..
في ميلاد الأبناء... يرتّب الآباء أمسية العيد بما يليق بهم، ويأخذوهم إلى الفرح ..
قبل قليل نهضت من صحوتي، بعد أن عاندني النوم، لاستقبل نهارا جديدا من نهارات الحياة المتعاقبة، بيد أن هذا النهار مختلف عما سواه؛ ففيه ذكرى ميلادك، وأي ذكرى هذه التي تأتيني وأنت "البعيدة عني أكثر مما أحتمل.. القريبة مني أكثر مما تتوقعين".
اليوم يا صغيرتي تكبرين عاما في هوى وطنك... عام سيكون مساؤه على خلاف مساءات مضت احتفلنا فيها بعيدك..
مساء الزنزانة ليس كمساء البيت... ولمة العائلة هنا ليست كالوحدة هناك... ويدي التي كانت تمسح شعرك الذهبي، وتأخذك بحنان العمر بعد إطفاء الشمع، كيف لها أن تحتضنك وباب الفولاذ يصد لهفتها الجامحة.
لا بأس يا صغيرتي سنفرح كما كنّا نفرح كعائلة... أنا وأخوتك سنقف أمام الباب نعلي الصوت، ننشد ونغني ونهتف لك ولأمك وكل الأحرار..
وأنت وأمك من خلف الباب ستشاركننا، وتطرقن الجدران بقوة ..
سنحتفل يا صغيرتي بعيد ميلادك هذا المساء على طريقة حبنا للحياة، ولكن حتى يأتي المساء وتعد أمك وأخواتك ما يتوفر من طقوس الفرح في زنزانة ضيقه، أريدك أن تحتملي قليلا؛ فأنا أعلم أن السجانين بعد منتصف الليل جاؤوا لزنزانتك، قيدوك واقتادوك في رحلة عذاب حتى تمثلين أمام قاضي عدالتهم المزعومة، ولا أدري إن كنت قد تمكنت من ارتداء بعض الملابس الثقيلة علها تمنحك بعض الدفء؛ فالجو بارد، وصفيح البوسطة بارد، وجدران غرفة الانتظار باردة..
مع هذا لا بأس؛ فروحك الدافئة قادرة على الاحتمال، وستكونين بخير لأنها بخير .. محكمتهم يا صغيرتي لن تمنحنا اليوم - ككل يوم - العدالة المشتهاة لأنها تشكلت خارج النص الإنساني، ووجدت كتعبير واضح من تعبيرات هذا الاحتلال الظالم على أرضنا، وفي سمائنا وتفاصيل حياتنا؛ فالاحتلال وكل قيم الإنسانية لا يلتقيان أبداً في منطق الحياة ..
هذه الغنسانية المبدعة ترسم ملامح الحياة بسحر ريشتها لتعطيها كل أسرار الجمال، أما الاحتلال فهو القبيح الذي جاء ليشوه الملمح الجميل ويعيث فيه الخراب...
إن الإنسان الحر -يا ابنتي - لا ينشغل كثيراً بنفسه؛ فاسمه ليس علامة فارقه إلا بقدر ارتباطه بفعل خلّاق، ينقله من مصاف التعرفة في شهادة ميلاد، إلى معنى وقيمة ونموذج في وعي الدنيا، والضمير الجمعي للناس، وأنت كذلك..
واليوم تنعقد محكمتهم في يوم ميلادك لتحاكم هذا المعنى فيك، مستغلة دخولك العام السابع عشر من العمر لتثير جدلاً قانونياً حول طفولتك؛ هل شبّت عن الطوق وغادرته؟.. أم مازال في بستانها بعض وقت ليلهو الفراش البريء فيه؟..
ويتسنّى لفقهاء اللاقانون عندهم إصدار فتواهم حول صفعتك المشروعة لوجه مؤسستهم العسكرية الخارجة عن القانون والإنسانية والضمير..
ويا ابنتي يا ملاكي: لا تنشغلي كثيرا في بعض مقولات العبثيين العابثين من تجار سياسة ودين.. فالمتدينين الذي انشغلوا بغطاء رأسك ليلعنوا نضالاتك لأن فيها شبهة السفور..
أو المأدلجين، الذين لا يعترفون بالآخر إلا إذا أصبح تابعاً تبعاً ودان بالولاء الفكري لهم ...
أو للمترددين، المرتعشين، الذين يَرَوْن في ثقافة الاشتباك، واستمرار الهجوم من قبل المخلصين والشجعان تعرية لهم؛ كلهم من (متدين ومتأدلج ومتحزب ومتردد مرتعش) حينما بدت لهم عوراتهم من وضوح فعلك، راحوا يخصفون عليها من رديء الكلام ويتخذونها أردية يتواروا خلفها..
هذا باطلهم وبهتانهم وزيفهم يا ابنتي وأنت اليوم أمامهم - كما الأمس والغد -، كنت على حق وستظلين..
على حق لأن تربيتك جاءت منسجمة مع إرث وتاريخ.. على حق، لأن عمرك نبت في آتون الاشتباك.. على حق؛ لان صفعتك لعسكريتهم المتعطشة للدم أصابت مقتل عنجهيتهم وبدعة رمزيتهم..
على حق، لأنك تمثلين الحقيقة، حقيقتنا الدينية والتاريخية والواقعية لوجودنا على هذه الأرض، وهم يمثلون زيف الخرافة التوراتية..
على حق، لأنك حملتِ رسالة جيل، لن يسقط الراية، وسيستمر في الهجوم.. على حق، لأنك ما أنحزت إلا لشعبك ولقضية وطنك؛ فأنتميت لفلسطين ولا شيء سوى فلسطين..
على حق، لأنك الآن واقفة في النقطة الأكثر وضوحاً (محراب الزنزانة)؛ فقدر الأحرار في هذا الزمان أن يرتقوا شهداء، أو أن يقبعوا أسرى في المِحْراب ..
على حق، لأنك النموذج المقاوم الذي يجمع عليه أحرار هذه المعمورة..
فلا تقنطي صغيرتي، حريتك قادمة، والمحتل إلى زوال وتلك القلة من المدّعين المزاودين المرتعشين، لن تحصد غير الخيبة ولعنة التاريخ..
بعد عودتي من المحكمة سأدخل غرفتك ومعي أخوتك وكل محبيك لنشعل شمعة الميلاد، مستشعرين حضورك البهي، هاتفين:
أنت العهد، وأنت المجد.. شامخة كزيتون الأرض..
أمك بانتظارك هناك؛ فإن أدركتيها قبل أن ينقضي الليل فعانقيها ومارسن طقوس الفرح بمولدك؛ وإن طلع عليك الفجر وأنت في بوسطة القهر؛ فلا تكترثي، تربعي على صهوة الأمل ولا تلتفتي للخديعة والسراب ونصح القلوب الواجفه، فقط ارقبي الفجر من الكوّة الصغيرة ووزّعي له ابتساماتك فهي جسر عبورنا نحو الأمل.
وكل عام وأنت على حق.. والدك المحب .