لم يُتح لي أن أتعرّف كثيرًا على القائد الفريد، عماد العلمي، أبي همام، إذ لم يُكتب لي إلا لقاءات معدودةٌ به، لكنه كان من الرجال الذين لا يغادرون الروح، ولا ينساهم القلب. أبو همام، سليل عائلةٍ من أعرق بيوتات فلسطين، فعائلته معروفةٌ بنسبها الممتدّ إلى آل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبمُقامها بالمغرب قبل هجرتها نحو القدس، ثم إلى غزة واللد، فالرجل شريف النسب، عريق المحتد، مقدسيّ الهُويّة.
تتلمذ على يد الشيخ أحمد ياسين، وكان من أهمّ شباب حماس في سنواتها الأولى، عانى ملاحقة الاحتلال واعتقاله، حتى أُبعد نهائيًّا عن فلسطين سنة 1994، ليعود إليها سنة 2012، بعد ثورات الربيع العربيّ.
أول ما عرفتُه من أخلاق الرجل التواضع، كان آيةً فيه، هادئ الصوت خفيضه إذا تكلم، دائم الابتسامة، يتلطّفُ لمن حوله، وإن كان أكبرهم سنًّا وقدرًا، ينصتُ بعينيه قبل أن يستمع بأذنيه، ويهتمّ بالصغير والكبير، وبحوائجهم وقضاياهم، في احترامٍ بالغٍ وتواضعٍ عظيم.
كان عماد العلمي دومًا من أبعد القادة عن الرغبة فيها، والتطلّع إليها، والتصدّر لها، يؤثر أن يكون في آخر الصفّ على أن يتقدّمه بتزكية نفسه.
عُرف منه الزهدُ، في كلّ ما ينكبُّ عليه الناس ويتهافتون، فقد كان زاهدًا في ثلاثة:
في المال، والمنصب، والشهرة، أما المال فما دخل بيته في دمشق أو غزة أحدٌ إلا عرف زُهده وبُعده من التكلّف والتصنّع والتشاوف، ولا عاشره إنسان إلا علم نظافة يده، وصغر الدنيا في عينيه، عاش عمره -أسأل الله أن يمدّ فيه- إنسانًا عاديًّا، قليل الحظّ من الدنيا، عن قدرةٍ عليها وتمكن منها.
وأما المناصب، فقد كان دومًا من أبعد القادة عن الرغبة فيها، والتطلّع إليها، والتصدّر لها، يؤثر أن يكون في آخر الصفّ على أن يتقدّمه بتزكية نفسه، والترويج لشخصه، وهو الرضيُّ المحبوب، صاحبُ الشعبيّة الكبيرة على جميع المستويات، بل بلغ به أن ينسحب من بعض الاستحقاقات المضمونة له، ويُفسح لغيره أن يتبوّأها غير عابئٍ ولا متحسّر.
وأما الشهرة فما أقلّ ظهوره في الإعلام، على كثرة مجالسه ولقاءاته، وعظم نشاطه وتفاعله، فكان قليل البروز للمنابر الخطابية، والمنابر الإعلامية، على حكمة في خطابه، وقوة في منطقه، وحُسنٍ في فهمه وتعبيره، يظهرُ خلال القليل الذي صدر عنه، والنزر اليسير الذي ظُفر به منه.
ولعلّ أكثر ما لمستُه منه قربُه من الشباب، وحرصه على السماع منه، والأخذ بآرائهم، والاطلاع على مكنونات صدورهم، إذ حظيتُ بشيء من القُرب بُعيد حضوره إلى غزة سنة 2012، إذ دعيتُ -مع غيري- إلى لقاءات عديدةٍ معه، فشهدته رجلًا واسع الصدر، يُحبّ أن يسمع الاعتراض والانتقاد، ولا يتكلّف أو يكابر في الجواب عليه، بل يُسلّم كثيرًا لمن ينتقد، ويعدُ بإعادة الطرح والنظر، ويسأل عن المقترحات والحلول، ويستمع باهتمام بالغ، ولعلّ عنده ما يقوله القائل وأضعافه.
هذا مع الشباب ذوي الصلة بالشأن العام، والمهتمين بالفصائل وقراراتها ومواقفها، أما مع عامة الشعب، فهو قائدٌ من الطراز الفريد، الذي يعيشُ آلام أهله، ويشعر بهم، ويعاني معاناتهم، ويصرّ على البقاء بينهم، واحدًا منهم، وما أحوج أهل غزة إلى مثل هذا، خاصة في هذه الظروف المُرّة، والأيام العصيبة.
أصيب في الحرب الأخيرة سنة 2014 إصابةً شديدةً، وبُترت على إثر ذلك قدمه، فعولج بصمتٍ وبأقلّ الإمكانات في غزة، ثمّ لما تفاقمت إصابته خرج للعلاج في تركيا، وتشرّفتُ بزيارته أثناء ذلك، فلم يكن أحرص على شيء من إتمام علاجه سريعًا، والعودة إلى غزة، ليعيش بين أهله وناسه، ويذوق معهم مرارة الحصار.
ومنذ ذلك الحين، وهو عطرُ الذكرى والسيرة كلّما مرّ اسمه، حتى فُجعت فلسطين بخبر إصابته برصاصةٍ في رأسه، وتناقل الناسُ أخبارًا عاجلةً متضاربةً بخصوص صحّته، حتى صدر البيانُ المقتضبُ عن حركة حماس، يذكرُ أنّه أصيب أثناء تفقّد سلاحه الشخصيّ، وفق ما ذكره البيان، وأنّ حاله الصحية -على خطرها- مستقرّة.
كان الخبرُ مفاجأة، وحُزنًا كبيرًا لكلّ من عرف القائد الكبير وما امتاز به، حتى بدأت أخبارُ تحسّن صحّته ترسم شيئًا من الأمل، محفوفًا بكثير من الخوف والرجاء، ودعاء الله عزّ وجلّ أن ينظر إليه بعين الشفاء والنجاة، وما هو عليه بعزيز.
كتب ابنه الأخ العزيز همام بالأمس:
" بفضل الله وكرمه حالة والدي مستقرة حتى الآن، ولكن ما تزال صعبة.
ومما تفضل الله به علينا ذلك الدعاء المتصل الذي لم ينقطع من أهلنا وأحبابنا، وكلما تحدث الي قريب أو صديق يخبرني كيف أنه لا يفتر عن الدعاء لوالدي، وكيف أنه يوصي أهله بالدعاء وأنه لا يعرف أحدًا من الناس جمعته علاقة بوالدي إلا ويصنع مثل ذلك، وهذا من عظيم فضل الله ومن جمال لطفه.
حاليا بدأ الأطباء بمحاولة إفاقة والدي، وهي مرحلة حساسة يُبنى عليها ما بعدها، وكل ما نرجوه أن تكرمونا بدعائكم وأن تطلبوا الدعاء لنا ممن عرفتم، ومن الصالحين والأطفال وحجاج البيت والعجائز وجزاكم الله عنا خير الجزاء".
وبمثل ما قال أخي همام أقول، وعلى دعائه أؤمّن، والله المستعان.
المصدر: مدونات الجزيرة