تسارعت في الآونة الأخيرة خطوات التطبيع العربية مع "إسرائيل"، في وقت بشَّرت فيه "إسرائيل" بعلاقات تطبيعية مع بعض الدول العربية وعلى الأخص السعودية، وبتحالف عربي/إسرائيلي ضد إيران باعتبارها عدوا مشتركا للطرفين.
بالنسبة للإسرائيليين؛ فإن هذا حلم قديم جديد يجعلها تحقيقُه كياناً غير غريب عن المنطقة، ولكنه هذه المرة لا يرتبط بتنازلات جديدة للعرب ضمن عملية السلام، بل بإيجاد عدو مشترك للطرفين وهو إيران وسعيها للهيمنة على المنطقة بالنسبة للعرب، وتمسكها ببرنامجها النووي الذي تحذر منه "إسرائيل".
لماذا الاستعجال؟
وفي هذا السياق تبدو السعودية و"إسرائيل" تحديدا مستعجلتين للتطبيع بشكل كبير؛ فالنظام السعودي دخل في توريث الحكم من الملك سلمان بن عبد العزيز لابنه محمد بن سلمان، وهو يستعد لتقديم الثمن المطلوب لذلك بما في ذلك تطبيع العلاقات مع "إسرائيل"، بوصفه مدخلا لتوطيد العلاقات مع الولايات المتحدة التي يطلب منها الموافقة على التوريث.
وقد قدم الملك سلمان أيضا الثمن المالي الذي طالب به الرئيس الأميركي دونالد ترمب بضخ الرياض مئات مليارات الدولارات في الاقتصاد الأميركي لإنعاشه والسماح للشركات الأميركية بالاستثمار في السعودية، وأخيرا ربما تتم الموافقة على طلب ترمب بطرح اكتتاب شركة أرامكو في بورصة نيويورك!
وبالنسبة للكيان الصهيوني، فإنه يريد استغلال الفرصة التاريخية لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بتقديم أقل ثمن ممكن، والحصول على تنازلات لم يكن يحلم بها في قضايا القدس واللاجئين، وعقد تحالف مع العرب لمواجهة إيران التي باتت تشكّل خطرا وجوديا عليه، وليس مجرد تهديد نووي وتسليحي محتمل.
فإيران بوجودها في سوريا تكون قد اقتربت لأول مرة جغرافياً من حدود "إسرائيل"، لتشكل بذلك -حسب زعم الكيان- خطرا وجوديا ملاصقا وليس مجرد تهديد نووي وصاروخي على بعد آلاف الأميال! ويريد الكيان الصهيوني تضخيم وتكبير خطر إيران لدفع الدول العربية للجوء إليها مع أميركا لمواجهة هذا الخطر المتوَّهم.
ويبدو استعجال الطرفين في غير محله، إذ لا تستطيع "إسرائيل" أن تسوّق لنفسها في المنطقة عبر السعودية وربما مصر، فهي لا تزال قوة محتلة في نظر معظم العرب والمسلمين، كما لا تستطيع السعودية -مهما أوتيت من قوة- تسويق "إسرائيل" تحت حجة مواجهة الخطر الإيراني.
فعلى الصعيد الرسمي؛ تفتقد السعودية القوة اللازمة لإقناع العرب بمساعيها خصوصا أنها فقدت القدرة على التأثير بالمال، فيما هي لا تملك من الهيمنة الإقليمية ما يمكّنها من إقناع كل الدول العربية بمسلكها هذا، حتى بالنسبة للرباعية العربية التي تضم -إضافة إليها هي- الإمارات ومصر والأردن.
وتكمن خطورة التوجه العربي في تقديم تنازلات جديدة تتعلق بالاستيطان والقدس، إضافة إلى تنازل بشأن اللاجئين يعتبر الثمن الذي تم تقديمه من قبل بمبادرة فهد بن عبد العزيز (عام 1981 عندما كان وليا للعهد)، ثم بالمبادرة العربية للسلام التي قدمها عبد الله بن عبد العزيز (عام 2002 عندما كان وليا للعهد)، بالحديث عن حل متفق عليه لقضية اللاجئين.
فإسرائيل ماضية قدما في التوسع الاستيطاني واستكمال الكتل الاستيطانية، التي تمزق الأرض الفلسطينية وتجعل إمكانية قيام دولة عليها شبه مستحيلة. كما أن خطوات تهويد القدس والتقسيم الزماني والمكاني لها تتم بشكل سريع مع ازدياد اقتحامات المسجد الأقصى كمًّا ونوعاً، والتي يتصدى لها الفلسطينيون بصدورهم العارية لإفشال المخططات الإسرائيلية.
خطوات مقلقة
وقد رأينا خطوات سعودية متسارعة نحو التطبيع، وسمعنا حديثا إسرائيلياً متزايداً عن التحالف مع السعودية في مواجهة إيران. ومن ذلك المقابلة التي أجرتها صحيفة "إيلاف" السعودية مع رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غادي آيزنكوت، مما دفع بوزير الجيش الإسرائيلي السابق موشيه يعالون للقول إنه "ليس من الصدفة أن يقول وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بالعربية ما نقوله نحن بالعبرية".
وأعلن رئيس الأركان الإسرائيلي في المقابلة استعداد بلاده لتبادل المعلومات مع السعودية لمواجهة إيران، مشيرا إلى أن "هناك الكثير من المصالح المشتركة بيننا وبينهم".
كما شارك رئيس الاستخبارات السعودية السابق الأمير تركي الفيصل -نهاية الشهر الماضي- في ندوة عُقدت بمعبد يهودي في ولاية نيويورك، ونظمها منتدى سياسة "إسرائيل" ومركز الأمن الأميركي الجديد ومركز قادة من أجل أمن "إسرائيل"، بحضور مدير جهاز الموساد السابق إفرايم هليفي، إضافة إلى إسرائيليين آخرين بينهم جنرال متقاعد.
وكشف وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتس -في مقابلة له يوم الأحد 19 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري مع إذاعة جيش الاحتلال- أن "لدى إسرائيل علاقات معظمها سرية مع عدة دول عربية وإسلامية "معتدلة" من أهمها السعودية، وذلك لمواجهة "الخطر الإيراني"، ويعدّ هذا أول كشف من نوعه لمسؤول إسرائيلي عن اتصالات من هذا القبيل.
ولكن كل ذلك يتم وسط عدم رضا دول عربية متحالفة مع السعودية، سواء من ناحية التكتيك أو المآل النهائي لهذه الخطوات، خصوصا أن السعودية تتعامل وكأنها قائدة المنطقة دون أن تقدِّم الثمن الذي كانت تقدمه دائما وهو المال.
ويبدو أن الانبطاح السعودي والإماراتي يقابله تعارض في الخطط والمصالح في إطار الرباعية العربية نفسها؛ فالأردن عبّر عن تخوفه من تضييع حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم، مما سينعكس سلبا على الاستقرار في الأردن الذي يشكل الفلسطينيون 65% من سكانه.
وحسب تصريحات مسؤول أردني رفيع -لم يفصح عن هويته- لموقع "ميدل إيست آي" فإن "التنازل عن حق العودة سيؤدي إلى اندلاع اضطراب في المملكة؛ فهذه قضايا بالغة الحساسية بالنسبة للأردنيين من الضفة الشرقية وبالنسبة للفلسطينيين على حد سواء". ولكن هذا المسؤول عاد فقال "إن أي صفقة لتسوية الوضع النهائي يدخل فيها اللاجئون الفلسطينيون لا بد من أن تشتمل على حزمة تعويضات للأردن، وتتوقع المملكة أن تستلمها كدولة".
وحسب الموقع نفسه؛ فإنه قد دُقّت النواقيس في عمان بعد تسريبات شبه رسمية تقول إن السعودية على استعداد للتنازل عن حق العودة الفلسطيني، مقابل وضع القدس تحت السيادة الدولية كجزء من صفقة سلام في الشرق الأوسط، وهو ما يفتح المجال أمام إقامة تحالف سعودي إسرائيلي لمواجهة إيران. وبهذا يخسر الأردن تأثيره عبر دوره في الإشراف الديني على المقدسات في القدس، وهي التي ضمنتها اتفاقية وادي عربة عام 1994.
ومما يقلق الديوان الملكي في عمان ذلك الضغط الذي يمارَس على الأردن للانضمام إلى الحملة المعادية لإيران، وما يمكن أن يترتب عليه من عواقب وخيمة سببها ما يعتبرونها سياسات سعودية "خرقاء".
وقال المسؤول الأردني المذكور "إن التحليل الذي يراه الأردن هو أنه، "لا إسرائيل ولا الولايات المتحدة الأميركية ستذهبان إلى الحرب، وأننا نحن الأردنيين سنُحمّل عواقب المواجهة المباشرة مع إيران، وسنتكبد تكاليف ذلك".
عوائق حقيقية
أما بالنسبة لمصر؛ فلم تتوقف خلافاتها مع السعودية عند الموقف من النظام السوري في مجلس الأمن العام الفائت، بل تجددت مؤخرا بشأن حزب الله وإيران، إذ رفض الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي التصعيد ضدهما ورأى أن ذلك لا يخدم استقرار المنطقة، وذلك في وقت اتخذت فيه الرياض موقفا تصعيديا ضد الاثنين، بعد إطلاق الحوثيين صاروخا بعيد المدى أُسقط قرب العاصمة الرياض.
وقد تكون هناك خلافات حقيقية بين القاهرة والرياض منبعها تخوف مصر من أن أي تصعيد في المنطقة سينالها نصيب منه، ولكن يبدو أيضا أن "دبلوماسية الرُّزّ" تدفع بالسيسي لمحاولة ابتزاز محمد بن سلمان مقابل الاستمرار معه في سياساته بالمنطقة.
ومن ناحية أخرى؛ يثير استدعاء بن سلمان لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى الرياض بعد توقيعه اتفاق المصالحة مع حركة حماس برعاية مصرية، التساؤلات عما أراده منه بن سلمان، ولكن من الواضح أن ضغطا سعوديا مورس على عباس للموافقة على خطة أميركية مرتقبة تتجاوز القدس والمستوطنات واللاجئين، لتسهيل عملية التطبيع العربية مع إسرائيل.
ويرى عباس في ذلك إضعافا للموقف الفلسطيني، لأنه يعارض بدء عملية التطبيع قبل تطور عملية التسوية حتى لا يخسر عامل الضغط على "إسرائيل"، ولا يعطي الفرصة لها للتملص من هذه العملية.
وتملك السعودية والإمارات أدوات للضغط على السلطة فضلا عن الضغط الأميركي؛ فهناك غريم عباس وهو محمد دحلان الذي يمكن أن تستدعيه الإمارات، للتلويح لعباس عن البديل القادم إذا لم يرضخ للمطالب السعودية والإماراتية.
رغم كل هذا الحشد في المنطقة والدعم الأميركي له لإنجاز التسوية والتطبيع؛ فإن خطة ترمب لم تر النور حتى الآن، وهو ما يصعّب المضي قدما فيها بدون رؤية واضحة المعالم، كما أن العديد من الدول العربية لا تشارك الرباعية العربية مواقفها من الصراع، هذا فضلا عن دور قطر الواقعة تحت الحصار.
إن إنجاز المصالحة الفلسطينية -إن تجاوزت العقبات أمامها- لا يعني أن عباس بات يمتلك مفاتيح الحل أو لعب الدور المطلوب منه، حتى ولو سعى إليه.
فما زالت المنطقة تزخر بعوامل المعارضة التي عبر عنها انعقاد مؤتمر حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) الأخير في الكويت، وكذلك استمرار حساسية القوى الشعبية المعارضة للتطبيع والتي سيكون لها دور في إفشاله أو إبطائه، خصوصا مع استمرار الممارسات الإسرائيلية القمعية ضد الفلسطينيين، وتواصل محاولات تهويد القدس.
كما ستستمر المقاومة والانتفاضة الشعبية في التعبير عن نفسها لتجعل الأجواء غير مهيأة تماما لاستمرار عملية التطبيع في حال انطلاقها. بل قد يؤدي تسارع عمليات التطبيع الرسمية إلى تشكيل أجواء جديدة تعم المنطقة، وتشكل رافعة لاستعادة روح الثورات العربية لتمس هذه المرة الدول التي ناهضت الثورات وعملت على إسقاطها منذ عام 2011.