قبل خمسة أيام من اغتيال الجمالين، شوهد الرجلان في جنازة رفيقهما صلاح دروزة "أبو النور"، منصور كان يحمل أحد أطراف النعش، وعلى يمنيه كان سليم، ومن الخلف كان "والدي" الشيخ حامد البيتاوي رحمه الله، أما على الطرف الرابع فكان الشيخ أحمد الحاج علي، حاول الجمالان يومها التراجع للخلف وإفساح المجال للشيخين غير أنهما رفضا وأصرا على البقاء مكانهما، لا أعرف هل هذا الفعل كان جزءاً من تصحيح أخطاء الماضي؟ أم كان إشارة رمزية منهما أن الشباب إذا ما قاوموا وضحوا يُقَدموا على العلماء والمشايخ؟، فالسبق هنا لمن جاهد وليس لأصحاب الشيبة، وكم من تلميذ بزّ أستاذه وسبق معلمه.
كانت عملية اغتيال الجمالين سليم ومنصور ورفاقهم، من أصعب المواقف التي مرت عليّ في انتفاضة الأقصى، في ذلك اليوم تناقلت وسائل الإعلام خبر استهداف أحد المكاتب الإعلامية وسط نابلس بصواريخ أطلقتها طائرة أباتشي إسرائيلية، توجهت كآلاف غيري مسرعاً إلى المكان، كان المكتب متفحماً من الداخل، في حين كانت بقع الدماء تملئ المكان، كان الحديد منصهراً والخشب مسودّاً والجدران والأرضيات محفَّرة، أما أجساد الشهداء فكانت مشوهة، ممزقة، متناثرة، متداخلة مع بعضها، متغيرة المعالم، كانت بقايا أجسادهم لا تزال في المكان.
في صبيحة اليوم التالي خرجت نابلس المحاصرة المكلومة عن آخرها في جنازة ضخمة مهيبة لم أر مثلها في حياتي، زاد المشاركون فيها عن 150 ألفا، ضاقت بهم شوارع نابلس العريضة وأزقتها الطويلة، هؤلاء فقط هم الذين نجحوا في دخول المدينة رغم الحصار المحكم الذي كان يطبق على أنفاسها، ولو قدر لبقية الجماهير الوصول من القرى والمدن المجاورة لزاد عدد المشاركين عن نصف مليون أو ربما يزيد.
انطلق موكب التشيع من مستشفى رفيديا غرب المدينة باتجاه دوار الشهداء، لفت الجثامين الستة بالريات الخضراء وحملت على أكتاف مقنعين مسلحين من كتائب القسام، كان المشاركون على مد البصر، يومها صعدت إلى سطح عمارة "العنبتاوي" قرب الدوار، أرقب وأصور المشهد المخيف، كان الناس كبحر هادر الأمواج، يتدفقون تباعاً، أما هتافاتهم فكانت الثأر والانتقام وهو ما كان بعد أقل من شهر، فعز الدين المصري أوجعهم في مقهى سبارو.
كانت عملية اغتيال الجمالين من أكبر الضربات وأقساها التي توجه لجناح حماس السياسي في الضفة الغربية بل وفي فلسطين كلها، فقد كان جمال منصور "ورغم صغر سنه النسبي" أحد أبرز مفكري الحركة ومنظريها، كان يمتاز برجاحة عقله ويملك نظرة تحليلية ثاقبة للأحداث ومجريات الأمور، كان يملك قدرة هائلة على الإقناع والتأثير، كان يخاطب العقل والقلب في آن في مزاوجة قل نظيرها، كان يملك شخصية كارزمية آسرة ولساناً طلقاً، كانت الكلمات تنساب من بين شفتيه مختصرة معبرة كفيلسوف إغريقي أو حكيم يوناني، إذا تحدث أنصت إليه من حوله، كان ملهماً خاصة لشريحة الشباب، ورأوا فيه قدوة وأنموذجاً قريبا منهم ويحتذى به، كان هادئً، بشوشاً، صابراً متواضعاً يألف ويؤلف، كسب احترام جميع الفصائل وفرض شخصيته على قادتها بحنكته ودماثة خلقه.
المفكر في الحركات والأحزاب، خاصة الإيدلوجية منها، يعتبره شخصية مهمة ومحورية، فهو كالدماغ بالنسبة للجسد، هو القائد الذي يوجه أتباعه ويضع التصورات والخطوط والسياسات العامة، هو بمثابة المحرك.. هو الشخص الذي يعرف إلى أين يتجه التنظيم وكيف سيكون شكله بعد عشرين عاما.. وهو الذي يُقوم الحركة إن حصل أي زيغ أو انحراف عن المسار الصواب والسكة الصحيحة...
أما جمال سليم، الذي أعرفه منذ أن كان أستاذا لي في المدرسة الإسلامية في المرحلة الإعدادية، فلا يختلف كثيراً عن صديقه ورفيق دربه منصور، كان خطيباً مفوهاً ذو شخصية جماهيرية قريبة من الشارع ذو صوت جهوري قوي، تراه موجوداً في جمع جنازات الشهداء ومواكب التشيع، أنهى قبل اغتياله بأسابيع قليلة كتابة رسالة الماجستير عن أحكام الشهيد في الإسلام، كانت رسالة مكتوبة بالدم لا بالمداد على طريقة صاحب الظلال والمعالم سيد قطب، قبل أيام من اغتياله وفي حفل تأبين رفيق دربه الشهيد صلاح دروزة، وقف على المنصة مردداً: "إنا نقدم قبل الجند قادتنا... نحو المنون سباقاً نحو مولانا".
اعتقد أن القائد الذي يستشهد من الصعوبة بمكان أن يعوضه أحد بنفس ثقافته ودرجة فهمه وقدرته على القيادة والتأثير بالجماهير، فهؤلاء كانوا من ثمار وتربية الرعيل الأول، واعتقد أن مقولة القائد يخلفه قائد هي للاستهلاك الإعلامي ليس أكثر.