من نقطة صفر أبى الجمر إلا أن يشتعل متوقداً قادماً من أم الفحم أو إن شئت فقل من أم النور إذ انبعث من ثناياها شعاع الأمل قادماً من بين الركام ومن بين خبايا الوجع والنسيان، حلّق محمد وصحبه يحملون الاسم ذاته والعزة ذاتها وعنفوان الثائرين الرافضين للذل والهوان ويحملون مع ذلك حبيبة قلوبهم "الكارلو" وبعضاً مما سيشفي غليل المسجد المحزون مما تشرّفت لتلامس أياديهم المتوضئة الطاهرة عند أطهر البقاع مكاناً وزماناً.
حتماً لم يكن اليوم ربيع الأول ولا رجب ولا أيٍّ من تلك التواريخ التي اختلف العلماء حولها عن حادثة الإسراء والمعراج غير أنها كانت تاريخاً حافلاً يعيد إلى الأذهان تلك الرحلة العاطرة الممتدة من أطهر البقاع صعوداً إلى السماء من بوابته الفلسطينية العتيقة الأقرب، توافق فيها " المحمدون" بأن يجودوا بالنفس غاية الجود والكرم إعذاراً للحبيب صلى الله عليه وسلم عن تقصير أمة تركت مسجدها محزوناً بلا أذان ولا أذن تسمع النداء.
فَعَلَ الأبطال فَعلتهم وكانوا إذ همّوا بالسير إلى القدس قد نثروا في طريقهم وتركوا للسائلين من بعدهم إجابات تشفي الغليل، وفِعالاً توقظ الهمم وتزيح عن كاهل الحيارى ضباب المرحلة وغباش ما أزمّته وأخفته وضيّعته خيارات الساسة المحدودة المبتعدة عن ذات الطريق والماضية في اتجاه بعيد معاكس، قال الأبطال للحدود والمسميات ألف لا، كسروا بصليات الرصاص عنجهية المحتل الذي أردف زماناً طويلاً يقتنص أفراح الوحدة والالتحام، فجعل لكلٍ على هذه الأرض طائفة وكيان وأرض وحدود ومسميات..
قال فِعلُ الشهداء للمحتل بأن الطريق من أم النور من (الاسم الحركي لفلسطين) من قلب فلسطين إلى أرض النور ليس مستحيلاً وليس بعيداً عن مرمى الشجعان ، وأن النور ما أن يسطع فإن الأفول مصير كل محتل غادر، قالوا للمسلمين في الأصقاع بأن رشاشاً محلياً ويداً طاهرة زكية تُغني عن ملايين الجنود التي تمعن في قتل شعوبها ولا تلتفت لمسرى نبيها، قالوا قولتهم ومضوا حيث الحياة بعيداً عن ضجيج الغضب الكامن في الصدور إزاء مشهدٍ يتكرر كل صباح أبطاله غاصبون قادمون من أصقاع الأرض يدنسون طهر القدس وعلى مرأى ومسمع المليار .. ثم جاءت البشرى، إذ لم يُنهِ المحتل لملمة جراحه بعد تلك الملحمة البطولية عند باب العامود قريباً من رمضان، فجاءته الملحمة الأخرى على وجه السرعة من حيث لا يحتسب، من نقطة صفر وقريباً من هناك، فما عادت "الأصفار" حكراً لأبطال غزة وحدهم يسومون بها المحتل..
في يوم الجمعة، في يوم العيد الأسبوعي، تهلل وجه الأبطال وتزينوا للقاء، تسابق الثلاثة أيُّهم يغنم لحظة البدء ويقتنص أهزوجة الفرح، تزاحموا على أبواب المسجد يريدون النزال حوله، أيّاً كان البادئ فكلهم محمد ، يكملون صلية الرصاص التي ابتدأها براء وعادل وأسامة مع صيحات الله أكبر وبريق تلك الخناجر من غمد المقبلين على أبوابها قوافل لا تنضب، في يوم الجمعة صعد المحمدون وفي الجمعة كان أبطال دير أبو مشعل أيضاً قبل أسابيع يُمضون أسلحتهم للحظة البدء والنزال، سمعوا قول الحبيب المصطفى: والجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهن ، فأرادوا أن يمحو حسامهم غفلة النائمين وذنب التقاعس والنكوص، برصاصهم قالوا: رُبّ صلاة بألف صلاة ورُبّ شهادة تحيي أمة، لقد عمروا المسجد بصلواتهم تحت أزيز الرصاص إذ تُغني عن ألف ألف مصلّ، تقدّم الرجال اليوم خطوة أخرى نحو الهدف ، قالوا للأقمار السابقين بإحسان استريحوا عند باب العامود سنكمل الدرب خطوةً إلى الأمام ، فكان اللقاء على عتبات الطهر قريبا ًمن باب حطة، يحطّون أوزار الناكصين عند أول طلقة..
أيقن العاشقون الطريق وسمعوا ندب الرمال ونوح المآذن الملتاعة فأنشدوا بالخطوِ إلى القدس هيا نشدّ الرحال، وأعلنوا فوق المنابر والمنائر وفوق كل بيان: لا تموتوا إلا بين زخات الرصاص، وها قد جاءت "أم النور" تكمل درب "المشعل" الذي أحياه شباب فلسطين بدمائهم ملامح مرحلة آن لها أن تفتتح صفحاتها البيضاء الناصعة لترنو فوق كل الجراح ، يواصل الأبطال مسير محمد علي والحلبي وكل السائرين في فلك القدس يدورون حولها حباً وكرامة ، حتى حدّثت نفس كل مجاهد فيها بالعشق المتمرد على كل قوانين الحب، وجاء على سطر صفحات المجد في عناوين الرجولة أن يخطّ الدم في ساحات المسجد: ليتني عظاماً يتسع لي في صخور القدس وترابها مكاناً أتوارى فيه ويتوارى فيها برفقتي خيبات العاجزين والمتأخرين عن دروبها تقصيراً ونُكراناً لا يطيقون سواه، وليتني وأنا أرقب تلك الطيور المحلّقة فوق فضاءات الجمال والكمال والبهاء لتحفّها أمنيتي ماذا لو كنتُ بجناحين أحلّق مع أسراب تلك الطيور الحسناوات اللاتي نِلن من الجمال والحُسن والفضل ما لم تناله أعيننا، من عَلٍ يرسمن لوحة ترمم وجه المسجد العبوس، تحاول جاهدةً أن تجعل من ثغرها أهزوجة فرح لا يعرف الكدر ..
فحلّق العشّاق والنجباء وواصلوا المسير دون توقف... وكان الصوت القادم من كل صوب وحدب يُسمع صداه : الأبرار لا يموتون ، والشهداء لا يرسمون صورة الوطن فحسب بل يخطّون أزهار الفرح على صفحات اليأس المرّ ...