دأبت السياسة الصهيونية على مقايضة الشعب الفلسطيني بحقوقه وحاجياته الإنسانية البسيطة مقابل حقوقٍ أخرى، أو بشكلٍ أحرى مقابل حقه الأساس والرئيس حقه في استعادة أرضه ومقدساته من الاحتلال الصهيوني.
وقد أثبتت هذه السياسة حضورها في الكثير من النقاشات لكنها لم تثبت فاعليتها لتنافيها مع الثقافة الأصيلة للشعب الفلسطيني ولعقيدته التي تربى عليها منذ نعومة أظافره، فقد رفض الفلسطينيون التخلي عن أرضهم أمام الكثير من العروض والأموال والامتيازات الصهيونية مرارًا وتكرارًا، ولا أدل على ذلك من أن "السلطة الفلسطينية" لا تجرؤ على استفتاء الشعب الفلسطيني إذا ما قررت أي اتفاقية تنازل مع الاحتلال.
وكانت انتفاضة الحجارة الأولى (١٩٨٧) أبسط مثال حين خرج الشعب الفلسطيني في انتفاضته رغم التسهيلات الصهيونية للفلسطينيين وسماحها لجزء من عمالها بالعمل داخل المزارع والمنشآت التي تحت سيطرة الاحتلال وبعوائد مادية فوق الجيدة وذلك لتسكين الفلسطينيين وتدجين فكرة المقاومة لصالح فكرة "التعايش" والرضوخ للاحتلال.
إلا أن هذه المقايضة تمزقت على يد أطفال حجارة في حينها وفشلت رهانات المساومة والسلام المزعوم، وزاد تمزق الرهان على مسار المفاوضات وأكذوبة "التعايش" بانتفاضة الأقصى التي أسقطت من الوعي الفلسطيني الإيمان باتفاقية أوسلو أو الاستسلام لمخرجاتها التي لم يلتزم بها حتى الاحتلال.
الاحتلال ماضٍ في مخططاته الاستيطانية ويبتلع يوميًا مئات أو آلاف الدونمات من أراضي الفلسطينيين في الضفة المحتلة، وتزداد انتهاكاته بحق الإنسان الفلسطيني وبحق المقدسات وفِي مقدمتها قبلة المسلمين الأولى حيث زادت الاقتحامات للمسجد الأقصى وازداد التهويد للمدينة المقدسة بل بات لا يخجل حتى من حديثه عن فكرة طرد الفلسطينيين من القدس والداخل المحتل.
وفي مقابل ذلك يحاول تضليل الرأي العام المحلي والعالمي بإعلانه عن بعض التسهيلات للفلسطينيين ومن ذلك إصدار تصريحات لهم بدخول القدس والمناطق المحتلة لفترات محدودة خلال المواسم، فما أوقحه يسرق أرضنا ومقدساتنا وبيوتنا ثم يتحدث لنا عن عطفه حين يعطينا تصريحًا مؤقتًا لدخولها وزيارتها.
إن هذه السياسة فشلت مرةً أخرى أمام فتية انتفاضة القدس أو انتفاضة السكاكين الذين لم يستأذنوا الاحتلال لدخول القدس والمناطق المحتلة بل دخلوها تهريبًا وعنوةً رغم أنف الاحتلال حاملين معهم سكاكينهم أو بعض الأسلحة محلية الصنع، كما فعل فتية دير أبو مشعل الثلاثة قبل أيام حين نفذوا عمليةً مزدوجة ضد جنود الاحتلال في القدس.
ولا شك أن الثقافة الفلسطينية المقاومة تأثرت ولو قليلًا نتيجة هذه المقايضة والسياسة الصهيونية ونتيجة مشروع الجنرال دايتون لإيجاد "الفلسطيني الجديد" فهناك من أبناء البيت الفلسطيني من يكتفي بزيارة أرضه المحتلة وهناك من لا يقبل إلا باستعادتها مهما كان الثمن والحق أن الفئة الأولى قليلة وغالبها يعتقد بذلك مرحليًا فقط دون أن تكون تلك ثقافته الأصيلة أو عقيدته.
ويبقى أن أقول بأن هذه السياسة أيضًا فشلت فشلًا ذريعًا أيضًا في غزة فأذكر قبل سنتين تقريبًا خرجت مظاهرة في رفح جنوب قطاع غزة ضد انقطاع الكهرباء ولكن حين خرجت عائلة الجندي الصهيوني "هدار غولدن" الأسير لدى المقاومة في غزة بتصريحها القائل بأن الكهرباء مقابل الجنود، عاد الناس إلى منازلهم وعادت هي بسواد الوجه وأفشلت رهان قادتها الصهاينة، لذلك اليوم يحاولون مقايضة غزة من جديد لكن بأسلوب جديد من خلال استغلال "الانقسام الفلسطيني" وخصومة سلطة عباس مع القطاع وبإذن الله سيفشل.
كما أن الاحتلال فتح معبر "إيرز" مع قطاع غزة زاعمًا أنه يفعل ذلك من منطلق إنساني رغم أن هذا كان لأغراض أمنية بحتة فقد أثبتت التحقيقات بأن عددا من العملاء المكتشفين حديثًا جرى إسقاطهم عبر هذا المعبر ومنهم أشخاص شاركوا في اغتيال الشهيد مازن فقها.
كما أن العديد من المرضى الأبطال في قطاع غزة ماتوا بعد أن منعهم الاحتلال من السفر لأنهم رفضوا التخابر معه والخضوع لابتزازه داخل المعبر الذي لا يستطيع السفر من خلاله سوى أقل من 5% من سكان القطاع والباقي ممنوعون أمنيًا.
لمن بقي في قلبه شك تجاه الاحتلال وأساليبه أو يزعم أنه لا يريد المقاومة خشيةً على بعض الامتيازات وللذي يخشى فقدان تصاريح زيارة القدس والصلاة في الأقصى نتيجة العمليات .. أقول إن الذي فرض عليك الصلاة هو الذي فرض الجهاد "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض".
المصدر: مدونات الجزيرة