شبكة قدس الإخبارية

النشيد الحمساوي وتحولاته

براء عياش

هذه المقالة هي في الأساس رحلة ذاتيّة؛ فأنا من الجيل الذي فتح عينيه على الأناشيد التي صاغت ولوّنت المشهد بل وحدّدت معالم الصراع مع الاحتلال، فكانت اللسان الذي ننطق به ونعبّر به عن مواقفنا المختلفة عندما تخوننا كلماتنا. أعتقد أن أهمية النشيد في حياتنا الشخصية ينبع من هذه الجزئية بالذات، ربّما لهذا السبب انتشرت أنشودة يا أمّي الحنونة بداية التسعينيّات كالنار في الهشيم، فكلماتها رقيقة لكنها في الوقت عينه تحمل قدراً كبيراً من الجَلد، أن يواسي الإنسان نفسه، أن يمسك يده بيده الأخرى لينتشل ذاته، ليكمل المسير. وقد كانت هذه هي السمة العامّة للنشيد، فلم يكن يميل النشيد الفلسطيني إلى البكائيات وأغاني العجز، بل كان يفضّل دائماً الأناشيد المنتفضة حتى في ظلّ الخسائر العظيمة.

لم تخرج الأنشودة الحمساويّة في إطارها العام عن الأغنية الثورية التي شاعت إبان الثورة الفلسطينية الكبرى1، حيث كانت الأغنية التي تخرج من الميدان تقوم بدورٍ مهمٍ في التوعية والتحريض وصيانة أيديولوجية الثورة، كان الناس يغنّون “يا عربي يا ابن المقرودة بيع أمك واشتري بارودة”، حين ارتقى السلاح إلى مرتبة أعلى من مرتبة الأم، فمن رحم البندقية تبزغ الحرية، التي بدونها لا كرامة لنا، “البارودة هي اللي عملتلنا قيمة”، وكانت الأغنية الثورية أيضاً نوعاً من أنواع التأريخ للثورة، فقد أتقن وليد سيف في مسلسل التغريبة استخدام الأغنية في سياقها التاريخي/الدرامي. فإن كانت ولادة الأغنية الثورية من اسمها، فأين وكيف بدأت الأنشودة الحمساوية؟

الجذور والثمر | اتساع الجغرافيا وانحسارها

مع بداية مدّ الإسلام السياسي الذي اجتاح المنطقة في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وانطلاقاً من نظرة جماعة الإخوان في ضرورة وجود الإسلام كأساس في كل مناحي الحياة، تأسست عدّة فرق تقدّم نشيداً إسلامياً محافظاً ليكون بديلاً للـ”أغنية” وليبرز على الساحة عدّة أسماء قدّمت نشيداً يحمل هموم الدعوة وأمل الأمّة مثل أبو مازن وأبو الجود وغيرهم. يمكننا القول إن التجارب الموازية في الأماكن الأخرى كانت “استنساخاً” للتجربة السورية. ففي الأردن تأسست فرقة اليرموك التي سيكون لها حصةً كبيرة في إطلاق الأنشودة الحمساوية وترافقها في ذلك فرقة الروابي التي تأسست في الكويت. في الضفّة تأسست في وقتٍ متأخر (١٩٨٥) فرقة الغرباء، أما في الشطر الآخر من الوطن، أسس الشيخ أحمد ياسين المجمع الإسلامي في قطاع غزّة، الذي انبثقت منه فرقة تحمل نفس اسم المجمع، ضمن رؤية الشيخ أحمد بضرورة إقامة مؤسسات موازية لمؤسسات الدولة تكون جزءاً من المجتمع، قائمةً على الإسلام ورافعةً لأهدافه. وفي أراضي الـ ٤٨ شارك الشيخ رائد صلاح (قائد الحركة الإسلامية في الداخل) بتأسيس فرقة النور التي صبغت أناشيدها بخصوصية الواقع المُحيط بها، فكانت أناشيدها تتحدّث عن الحفاظ على الهوية الفلسطينية ورموزها في ظل محاولات مستمرة لـ “أسرلة” المجتمع الفلسطيني في الداخل.

اتّسمت الأناشيد الناتجة عن هذه الفرق بطبيعة دعوية تحمل نفساً صوفياً وهمّاً اجتماعياً تربويّاً. حتّى أنّ سوء التسجيل كان يُعطي لمحةً بإخلاص هذه البدايات للغاية التي انطلقت من أجلها حيث كان يتم تسجيل بعض الأشرطة تحت قباب المساجد حتّى يتم الحصول على الصدى. وكان يتم التسجيل باستخدام المسجّلات العاديّة التي تتوفّر في المنازل، حتّى أن  صوت “الكبسة” عند انتهاء التسجيل كان مشكلةً تمّ حلها بسحب القابس من الكهرباء قبل انطلاق الكبسة. كانت هذه الأناشيد عابرة للجغرافيا؛ فيمكن لشخص في فلسطين أن يستمع لأغنية سُجلت في سوريا، بكلماتٍ مصرية، فقد كان الهمّ مشتركاً وعابراً للجغرافيا أيضاً.

“كنا نغني في الأعراس جفرا عتابا و دحية

واليوم نغني برصاص عالجهادية الجهادية

واتغير صوتي يا ولاد صار أعلى مية المية

يا بلادي يا احلا بلاد انتي روحي و عينية”

نوح إبراهيم من الشعراء المشهورين فلسطينياً في الثلث الأول من القرن الماضي. يمكننا أن نستمع إلى أغنية الله يخزي هالشيطان التي تتحدث بنغمةٍ مبهجة عن النساء والخمر والسهر، أي الطرق المبهجة التي يُمكن للفلسطيني أن ينفق فيها ماله. هذا الشخص نفسه التحق بالثورة الفلسطينية  بعد قيامها وألف عدداً من الأغاني الثورية، ربّما أشهرها من سجن عكّا. بذلك يكون نوح إبراهيم قد انتقل من النساء إلى الثورة ليصبح فيما بعد شاعرها، حتى كتب قصيدته الأخيرة دماً عندما سقط شهيداً في إحدى معاركها. كان اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام ١٩٨٧ انعطافاً مهماً في القضية الفلسطينية حيث أُعلن عن انطلاق حركة المقاومة الإسلامية (حماس) مما أدى إلى نشوء الأنشودة الحمساوية. وكما انتقل نوح ابراهيم إلى الثورة، ارتدَت الأنشودة الإسلامية الرداء الحمساوي، حيث أصبحت الأناشيد تتمحور حول القضية الفلسطينية ومواجهة الاحتلال.

“ثمنية ١٢، أشعلناها بإدينا

والعالم كله عم يتفرّج علينا

يا فلسطين لأجلك على الجمر مشينا

والنصر قرب يا يمّا واتعدينا

يا ثورة قومي ..في غزة قومي

في نابلس قومي .. في القدس قومي

في الأقصى قومي”

فكما حلّت البندقية مكان الأم في الأغنية الثورية الأولى، كانت الأنشودة الحمساوية بمثابة الأم المربّية للجيل الإسلامي، فاحتل المسجد والأنشودة الموقع الأول في التربية ضمن نظرة شاملة بضرورة حلول الإسلام واحتوائه الأنشطة الأخرى، احتوى المسجد كافّة النشاطات الشبابيّة، حتى الرياضية منها، إذا سألنا الجيل الأكبر منّا قليلاً سنجده يحفظ الأناشيد في حين أنه لم يكن لديه مسجّلات في المنزل، فقد كانت الأناشيد تُنشر داخل مراكز تحفيظ القرآن والمراكز الشبابية الإسلامية الأخرى لأهميتها التربوية وحفظ المنهج الذي تدعو له الأنشودة، حتّى أنني أتذكر كيف كنّا نحمل قصاصات عليها كلمات أنشودة إيه أمي لو أراكي، لكي نرددها مع المُنشد. تجلّت هذه الروح التي انطلقت بها الأنشودة حتى في أسماء روّادها، عند الاستماع للرعيل الأول ستجد ألقاباً فقط، أبو مازن، أبو الجود، أبو دجانة، دليلاً على طغيان روح الفكرة والإخلاص لها، فكانت الدعوة للدعوة أهم من الاسم والمجد الشخصي بالإضافة أيضاً إلى العامل الأمني خوفاً من السلطات وتبعه ذلك سريّة التسجيل أحياناً، حتّى أن بعض الفرق كانت تنشر بدون أسماء خوفاً من الملاحقة والاعتقال، فكانت الفرق الإنشادية تُستهدف مع كل حملة تستهدف حركة حماس نفسها.

في بعض الأناشيد لم يكُن من الممكن فصل الصراع مع الاحتلال عن وظيفة الأنشودة التربويّة، فإذا نظرنا إلى أنشودة موج البحر عالي على سبيل المثال، نجد أن الدعوة إلى الحفاظ على الوطن وعدم التفريط بترابه مرتبطة بالحفاظ على الوالدين وعم التفريط بهما في الملاجئ:

“موج البحر عالى فجِّروا الصراع

ياطول الليالي الوطن ما ينباع

الوطن ما ينباع

خاين يا اللى يرضى ويرمى امه فى الملاجى

حطها اليوم وقلها بكرة يمكن رايح آجى

ضيع امه وعهد أبوه، كبروا ولاده وضيعوه

الوطن ما ينباع”

كانت الكلمة المَعلم الأبرز الذي يميّز الأنشودة في الثمانينيات والتسعينيّات، فالكلمة هي الرسالة نفسها والمكوّن الأول للدعوة التي انطلقت الأنشودة من أجلها، لهذا لم يكن هناك داعٍ للاهتمام بالموسيقى مما أدى إلى خروج الأناشيد في البداية بلا أيّة مؤثرات، إذ أن شدّة الاهتمام بالكلمة حالت دون إدخال المؤثرات على بعض الأناشيد لعلها تفسدها. وكان استخدام الدف أو جهاز الإيقاع الآلي وغيرهما من الأدوات الإيقاعية فيما بعد يقرّب كلمات الأنشودة إلى المتلقّي. سمح التركيز على الكلمة للفرَق بـ “أسلمة” الأغاني الثورية التي ارتأت في كلماتها جمالاً وثورية، مثل ما فعلت مع أناشيد عدّة مثل اسلمي يا قدس، الذي حوّرته من أغنية اسلمي يا مصر و أنشودة لبّيك إسلام البطولة التي حُوّرت من أغنية لبيك علم العروبة، وأناشيد أخرى غيرها.

لم تكن الفرق الإنشادية جزءاً من الحركة الإسلامية، بل مؤسسات لها استقلال تام، فكانت الأنشودة من الجمهور للجمهور. تشعر الفرقة أنها جندي في هذه المعركة الكبيرة، فتعرف دورها وتتصرف بناءً على ذلك، لم يتعدّ الدعم من الحركة للفرق الإنشادية سوى الدعم الرمزي كما فعلت كتائب القسام عندما أطلقت اسم فرقة الوعد على الذراع الإعلامي للجناح العسكري المعروف بـ كتائب عزالدين القسام، أو على شكل مبالغ مالية بسيطة تساعد الفرق في التسجيل كما فعل الشيخ أحمد ياسين مع فرقة المجمع الإسلامي. في مهرجاني الانتفاضة الأول والثاني نجد أن فرقة اليرموك ارتدت الزيّ العسكري على المسرح وغنت أناشيد تبنّت القُطرية الفلسطينية بعدما كانت أناشيد دعوية عابرة للجغرافيا. استثارت الرموز الدينية المستخدمة في اناشيد كـ مسلمة من أرض المشرق المشاعر الإسلامية الخالصة دون الخصوصيّة الفلسطينية. ولكن مع مرور الزمن، وكما سنبيّن في القسم التالي، سنجد انسحاباً للرموز الإسلامية المكثّفة من الأنشودة، وزيادةً في الانحسار الجغرافي لها، حيث أنها ستواكب التغيّرات السياسية على الساحة الفلسطينية وتصبح أكثر ارتباطاً بها.

لم تسمح السلطات الأردنية بإعادة إقامة مهرجان الانتفاضة للمرة الثالثة على أرضها، فقد كان المهرجانان سبباً أساسياً في تجييش عواطف الشباب والدفع بهم نحو القيام بأعمال مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي انطلاقاً من الأراضي الأردنية. وكما يتحدّث اليوم الاحتلال الإسرائيلي عن أدوات التواصل الإجتماعية كأدواتٍ تحريضيّة تحث الشباب على تنفيذ عمليات طعن ودهس، كانت الأنشودة الحمساوية في ذات المقام، من حيث احتفائها بعمليات المقاومة والمطالبة بالمزيد منها.

“ولما نزلوا العملية هالميامين

قتلوا إيلان سعدون وخطفوا ناسين

وهلا بالقسّامي ابنك حماس

ويا هلا”

الانتشار والثمن

عندما أعود بذاكرتي إلى الأنشودة القديمة السابقة للانتفاضة الثانية، أجد أنني على المستوى الشخصي أكثر ما أفتقده هو عنصر الرواية في الأنشودة. إذا أخذنا مثلاً شريط باسم الجريء أو شريط عياش والوطن سنجد أن الشريط بأكمله عبارة عن رواية تبدأ من جذور الحكاية حتّى نهايتها، تملؤها العبر على شكل أناشيد. هذا الشكل أكثر اتّساقاً مع طبيعة الأنشودة في بدايتها، حيث الأهداف الدعوية، والإيمان بالسرديات الكُبرى. مع دخول الإنترنت وانتشار المنتديات، أصبح بالإمكان اجتزاء الأنشودة من الشريط فيما انخفضت المبيعات. فأصبح إنتاج الألبوم بالشكل الروائي بما فيه من ضرورة كتابة السيناريو وإخراجه عبئاً مالياً لا تستطيع الفرق الإنشادية تحمله، ليطوى هذا اللون مع انطواء القرن الماضي. لا زلت حتّى اليوم عندما استمع إلى أنشودة شمس تقبّل روحه أو شريط عياش والوطن أجد نفسي مردّداً: “وكان علينا أن نشكر مريم العمّوري”2.

في نصيحة يُسديها الشيخ المعروف سلمان العودة للفقهاء: “من الشجاعة أن يفتح الفقيه الأبواب القابلة للفتح قبل أن ينتظر أن يكسرها الآخرون”. لكن هذه النصيحة تكتسب قوتها من كونها غير قابلة للتنفيذ. فبقيت الفتوى تجاري ما يترسّخ في الواقع وابتلاعه والتماشي معه. تعدّدت الأسباب التي جعلت استخدام الموسيقى يتنامى تدريجياً في الأناشيد بالإضافة إلى التغيّر الذي طرأ على الكلمة، وقد عملت هذه الأسباب بشكلٍ موازٍ مع بعضها البعض.

بقيت الفرق الإنشادية تعاني من مشكلة الشريحة المستمعة ووسائل الوصول، فالأنشودة الحمساوية لم تكن تصل سوى إلى آذان جمهور الحركة، بينما استطاع منشدون أو فرق إنشادية خارج الإطار الحمساوي اختراق شرائح واسعة جدّاً، منها جمهور فرق الحركة نفسها. وقد يعود العجز باختراق شرائح أخرى إلى صعوبات ماديّة. فكانت التلفزيونات في ذلك الوقت ترفض بثّ أناشيد هذه الفرق لأسبابٍ فنيّة في المقام الأول، فلم يكن تسجيل المُنتج وجودته يلائمان معايير التلفزيونات، ناهيك عن تكاثف الرموز الإسلامية في الأنشودة. دفع هذا الفرق الإنشادية إلى ابتلاع المعايير التي تقبل بها هذه المنابر المتوجهة إلى الشرائح المتنوّعة، من استخدامٍ متتالٍ للموسيقى وصولاً إلى الإيقاع الإلكتروني الكامل مع نهاية التسعينيّات.

برز العامل المادّي بشكلٍ واضح في مسيرة الفرق الإنشادية، فكما قُلنا سابقاً، لم تكن الفرق تتبع للحركة بشكل تنظيمي، فقد كان عليها تولّي أمرها بنفسها. كانت الغالبية العُظمى من أعضاء الفرق الإنشادية تمارس عملاً آخر بجانب عملها الإنشادي. شكّلت الأعراس الإسلامية رافداً مادّياً هاماً بالنسبة لهذه الفرق، فعلى سبيل المثال أحيت فرقة المجمع الإسلامي عرس القيادي في الحركة الشهيد جمال منصور. وقد كان إحياء هذه الأعراس يتطلب إدخال أدواتٍ موسيقيّة جديدة لم تكن مستخدمة في الأناشيد، وإضافة اللون الخاص الذي تتطلبه حفلات الأعراس.

في نهاية التسعينيّات ومطلع هذا القرن، لمع نجم اسمين سيكون لهما الأثر الأبرز على ملامح الأنشودة فيما بعد: أيمن الحلّاق وموسى مصطفى القادمين من خلفية أكاديمية في الفن والموسيقى. عام ١٩٩٨ أطلق أيمن الحلّاق أنشودة فتنت روحي يا شهيد التي كانت على قدرٍ كبيرٍ من الإتقان والجودة في التسجيل والتوزيع ما جعلها مثالاً تتطلّع له الفرق الأخرى على الساحة. حتّى أن المُضطلع على تتطور الأنشودة يُمكنه أن يؤرخ الأنشودة ما قبل فتنت روحي وما بعدها. فلم يكن بالإمكان للفرق بالعودة إلى مستوىً أقل من الذي وضعته أنشودة أيمن الحلّاق، فأصبحت الخطّ الذي ينبغي على الأعمال اللاحقة تجاوزه.

عام ٢٠٠١، أطلق موسى مصطفى ألبومه ها قد رحلت الذي أثار جدلاً بسبب احتوائه على إيقاعٍ احترافي كامل. ومن ثمّ أصدر ألبومه أحبّيني الذي أثار جدلاً أوسع لاستخدامه الموسيقى بشكلٍ كامل، والكلمات التي يُمكن إلباسها أثواباً مختلفة، وشكّل هذا الأمر المدحلة التي تلقت الضرب في البداية، لتفتح الطريق للفرق الأخرى لاقتفاء أثره، ناهيك عن بروز نجم المنشدين الأجانب مثل سامي يوسف وماهر زين، والأثر الذي تركوه على فكرة استخدام الموسيقى للوصول إلى الجيل الذي استقبلهم بحفاوة.

السياسة واللغة

كما كانت ولادة الأنشودة الحمساوية من فعل ولادة الحركة نفسها، سارت الأنشودة جنباً إلى جنب مع الحركة، وتحولت اللغة المستخدمة في الأنشودة والمُخاطب أحياناً مع تغيّر موقع الحركة السياسي ومناوراتها. أدّى استهداف الحركة للاحتلال كعدوّ أول وعدم الصدام مع السلطة الفلسطينية إلى انعدام المواجهة مع الأطراف السياسية الفلسطينية الأخرى في الأنشودة. ولكن لم تخلُ الأنشودة من تلميحاتٍ عكست مواقف الحركة السياسية. نجد مثلاً في أنشودة كل عام وانتو بخير يا أهل الضفة الغربية رسالةً واضحة هي: نرفض الحكم الذاتي. وما هذا إلّا انعكاسٌ للموقف السياسي الذي اتخذته الحركة في وجه مشروع التسوية. مع استواء عود الحركة، أصبحت الأنشودة أكثر قدرة على توجيه التهديدات المباشرة، كما حدث عندما قامت أجهزة الأمن الفلسطينية باغتيال خمسة من عناصر كتائب الشهيد عزالدين القسام في مدينة قلقيلية، فخرجت أنشودة فرسان الضفة، “ما عاد بدها صبر يلّي تعودتوا الغدر، صار بدها ألف حساب، إيديكم بدها بتر”.

عندما انطلق ألبوم أطياف الاستشهاد لم يكن سهلاً الاستماع إليه بصوتٍ عالٍ، فالألبوم شكّل نقلةً في مستوى اللهجة واللغة المستخدمة في الأنشودة حيث أن الكلمات كانت قويّة مباشرة “قولوا هي يالربع والخاين ما نريده، بنريد الشبّ يجاهد وحزامه بإيده”. فقد كانت الانتفاضة الثانية حازمة ومباشرة، والعمليات الاستشهادية على أشدّها. وقد ترك هذا النهج بصمته في المراحل اللاحقة حيث تعاظمت قوّة الحركة العسكرية وارتفعت لهجة التحدّي أكثر فأكثر، مما شكّل ابتعاداً عن الأشعار المنمّقة ذات العمق الوجداني والاتجاه نحو الكلمات الرنّانة المباشرة التي تترك انطباعاً قويّاً سهلّ التذكر والترديد.

بات واضحاً في الحروب السابقة على قطاع غزّة، وخصوصاً الأخيرة، تطوّر الأداء الإعلامي للجهاز العسكري للحركة الإسلامية. تجلّى ذلك باختراق بثّ القنوات العبرية وبثّ مقاطع تهديد باللغة العبرية عبرها، بالإضافة إلى الرسائل المكتوبة باللغة العبرية على صفحات الناطقين الرسميين باسم الحركة أو خلال استعراضات الحركة. وقد انعكس ذلك على الأنشودة بترجمة زلزل أمن إسرائيل إلى اللغة العبرية وخروج أناشيد أخرى موجّهة لجمهور العدو.

الأنشودة السائلة؟

لم تنج الأنشودة الحمساوية من التأثّر بالعصر المتسارع الذي نعيش فيه، والذي أصبح أكثر تسارعاً على الصعيد المحلّي مع انتهاء الانتفاضة الثانية. كتب عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان سلسلة من الكتب عن طبيعة الحياة في عصر ما بعد الحداثة، وأثرها على المجتمع والأخلاق وتحدث كثيراً عن أن هذا العصر هو عصر المؤقّت والسريع، عصر الالتهام غير الكامل ورمي المخلّفات قبل انتهاء صلاحياتها، والركض للإمساك بالحاضر قبل أن يتركنا وراءه كمخلّفات هذا العصر، حيث أصبح الإنسان نفسه سلعةً يُمكن أن يعفو عليها الزمن. نلمس هذا الأمر في الأنشودة الحمساوية الحديثة، حيث أصبحت موسميّة، تلحق الحدث سريعاً قبل انتهاء أثره سعياً لتحقيق أكبر قدرٍ ممكن من الشهرة، ففقدت الكلمات القديمة أثرها. أصبح هناك سعي وراء الكلمات ذات الإيقاع السريع الرنّان والتي تناسب طبيعة هذا العصر الذي يتحرّك بسرعة كبيرة، حيث تشعر أنه إذا صدرت الأنشودة بعد الحدث بأسبوع فلن يستمع إليها أحد. يبدو أن الفُصحى والشعر البليغ قد أصبحا بدورهما من مخلّفات الماضي، فابتعدت عنها الأنشودة الحديثة وتبنّت نمطاً جديدة من اللغة أقرب إلى العامّية، ليسهل إنتاجها بالشكل الذي يتطلبه هذا العصر.

مع انتهاء حرب غزّة الأولى، انحسرت الأنشودة الحمساوية بمعناها التقليدي، لتحلّ مكانها الأنشودة الوطنيّة الملتزمة التي تحتوي الصفات التي ذكرناها في الفقرة السابقة، حيث استطاعت بهذا الأسلوب أن تجذب الأنشودة الجزء الأكبر من الشعب الفلسطيني وليس جمهور الحركة الإسلامية فحسب. امتازت الأنشودة مؤخّراً بانسحاب الرمز الإسلامي لمصلحة الرمز الوطني في محاكاة لتحوّلات حركة حماس الفكرية. في فيديو كليب أنشودة قادم الذي أنتجه المكتب الإعلامي لكتائب القسّام، نجد حضوراً صارخاً للعلم الفلسطيني، الأمر الذي لم يَكن مألوفاً في السابق. إذا قُمنا بالتجوّل في شوارع مدن الضفة الغربية أثناء الحرب الأخيرة على غزّة، سنجد أن هذه الأناشيد تنطلق بصوتٍ عالٍ من السيارات والمحلّات التجاريّة، وهو أمر غير مألوف خلال أجواء التهدئة نظراً لشدة القمع الأمني في الضفة.

ماذا بقي إذاً من ملامح الأنشودة الحمساوية الكلاسيكية بعدما أصبحت الموسيقى تشابه الموسيقى المستخدمة في أغانٍ أخرى؟ وماذا بقي منها بعد أن تمّ تقليل رموزها الإسلامية إلى حد أصبح لفظ “ملتزم” فضفاضاً عليها؟ وهل أثرّ انحسار الرموز الإسلامية على التحولات اللغوية التي طرأت على الأنشودة؟ اخيراً، إلى أيّ مدى سوف تستطيع الأنشودة الحمساوية أن تبتلع الأغنية دون أن تفقد ذاتها؟

المصدر: معازف