هدوء حذر تقطعه أصوات خافتة لتلك الطائرات الخفيفة بلا طيار، وهمسات المقاتلين المرابطين في ساحة كنيسة المهد ترقب اللحظات والساعات بحذر شديد تخترق السكون المهيب، وانتظارٌ للمجهول، صمتٌ يتغلغل بين هبات الرياح سكونه، يمتزج ببعض من القلق، والتحدي، والترقّب، القادم أسوأ !!؟؟، هل يا تًرى ستسقط المدينة في قبضتهم، هل سيتكرر مشهد النكسة الأليم، وهل للدماء أن تراق على أعتاب المدينة المقدسة بقدسية من ولد فيها؟ هل علينا أن نواجه كل تلك الدبابات التي بدأت بالزحف من كل حدب وصوب.
هل علينا أن نبقى تحت رحمة " الزنانة " ترانا ولا نرى منها إلا صوتها كأنه يقول إني أراكم واحداً واحدًا، فالزموا منازلكم !!، هل كان علينا أن نؤجّل الفرح يوماً آخر، نشرات الأخبار تتلاحق والميدان يستعر والمجهول سيبدو أكثر وضوحاً خلال ساعات، والسؤال الذي يختلج الصدور ويحبس الأنفاس، هل سيصمد المقاتلون؟ يوماً آخر، أكثر أو أقل؟ هل في جعبتهم ما يكفي لوقف زحف الجنود المدجّجين والآليات المصفحة؟؟!!
ما بين "كنيسة المهد" ومسجد "عمر بن الخطاب " ساحة المهد وهو كل ما تبقى من محافظة بيت لحم يومها بلا أغراب يدنسون طهرها، إذ امتلأت الحواري والأزقة بالجنود، أما جنود الأرض المخلصين الذين رابطوا فيها منذ نعومة أظفارهم واحتشدوا فيها مطاردين مقاتلين لأشهر قد خلت من قبل وكانت آخر القلاع التي يتحصنون بها فقد بدا الشتاء قاسياً عليهم يخطّ لهم طريقاً من الوجع على أعتابها.
قد تزاحموا بعد انسكاب الرصاص والصواريخ كالمطر المنهمر من السماء الملبّدة بالغيوم والطائرات ولوجاً إلى حيث ولد المسيح – عليه السلام، يتحصنون ببعض الدفء تحت صخب العالم الآخر خارج أسوار الكنيسة، صخبٌ وضجيج حوّل مدينة السلام إلى مرتع يدوس طهرها أغراب قدموا من أقاصي الأرض، فانتهكوا كل محرم، وداسوا تحت أقدامهم كل شيء، أحرقوا المسجد والكنيسة وزرعوا الحقد في حديقة السلام بذوراً تتعمق جذورها يوماً بعد يوم.
تواصل الطائرات تحليقها فوق منازلنا والنيران تنطلق لتدمر أجزاءً كبيرة من السوق البلدي قريباً من وسط المدينة، كانت الأمطار في ذلك الصباح الموجع تحكي حَكايا الدفء في رحم البدايات، تحكي قصة الألم في وقت اشتداد البرد والقصف، إنه نيسان الحزين، كم تمنيت لو كان الحصار كابوساً ينتهي مع انتهاء الليل أو كان كذبة، لكنها كانت ستكون كبيرة، طويلة بطول الأربعين يوماً.
وفي كل لحظة من الأربعين يومًا وآلاف اللحظات التي تحيا فيها بين زخات رصاص الموت والحقد يراودك السؤال، كيف لهذا العالم أن يحتمل الحقيقة أربعين يوماً لحصار أقدس الأماكن لا يحرّك فيها ساكناً فإن كان لا يرى المسلمين ونزف جراحهم – في بقاع الأرض قاطبة - إلا بعين واحدة فماله اليوم يفقأ عينيه أمام المكان الأقدس للمسيحيين حول العالم، هذا عوار ليس كأي عوار، وأمام مصالح الاحتلال وهمجيته تسقط كل الأوراق، وتتهافت الضمائر موتاً لغاية في نفس المتآمرين الخانعين، سقطت كل الأقنعة عن تلك الوجوه البالية يوم أن سكتوا دهراً عن كنيسة بجوار مسجد يحترقان معاً، ما فرّقت يد الغدر ولا آلياته ولا جنوده الغوغاء بين بيتين طاهرين شامخين، وما كان يفهم الرصاص أي الصدور يخترق ولا أي الجُدر يصيب، ولا النيران تاهت وهي تعرف طريقها إلى بيوت الله في تجلي العنجهية والغوغائية بصورها الأكثر قبحاً في القرن الواحد والعشرين، نفذت الذخيرة، احتدم الموقف وبلغت القلوب الحناجر، ضاقت الأرض وتلفحّت بيت لحم بالسكون المميت وتغولت يد الغدر كل بيت وشارع ، حلّ الظلام باكراً وخيّم الصمت على المكان وكانت كنيسة المهد الملاذ وآخر الحصون إذ يلجأ إليها المحاصرون نحو الحصار الجديد.
أكانت مؤامرةً أم أنها الصدفة؟ لا مكان الآن للنزاع أو الجدال، فقد بدت الصورة أكثر وضوحاً وهي تفصح عن ملامح المرحلة المقبلة، لا خيار أمام المقاومين ولا بديل إلا أن تتجه تلك الجموع طوعاً وكرهاً نحو الكنيسة أو إن أرادت غير ذلك فليس أمامها إلا أن تقف لتواجه دبابة "الميركافا" وجهاً لوجه، فالحصار أطبق على المدينة وعلى محيط تلك البقعة الجغرافية الصغيرة.
يُرخي الليل الستار بعد صباح تناحر فيه الهدوء والصخب، وتعانق فيه الضياء والأمل، وتعلّق فيه الصغار والكبار لا يريدون للظلام أن يكون ضيفاً ثقيلاً، تتقدم القوات من كل حدب وصوب ، الدبابات تخترق شوارع المدينة، تخترق أريافها ومخيماتها، تحطّم كل شيء في طريقها، تدوس السيارات لتغدو صفيحاً من حديد وأثراً بعد عين، وصليات الرصاص لا تصمت كمكبرات الصوت التي " تلعلع " في الأجواء.
يبدأ إطلاق النار من جديد، بالبنادق المحلية والعبوات اليدوية البسيطة يُعرقل المقاومون سير الدبابات ويعطبون إحداها في الطريق إلى ساحة الميلاد، تحترق الكنيسة بقعل القذائف الصاروخية، الدخان يملأ المكان، محاولة اقتحام، قناصة ومنطاد، شهيد يرتقي من داخل الكنيسة، وآخر يرتقي صاعداً يدقّ الجرس ويستمر النزيف!!
ما فرّقت الرصاصات بين مسلّح وآخر أعزل يتسلّح بالصمود، يُمنع التجوال أياماً وأسابيع، ويخنق الحصار مهد المسيح أما الدبابات فتغدو وتروح وتسرح وتمرح في أرجاء المدينة إذ الفراغ والهدوء إلا من ضجيجها وخلخلة "جنازيرها" ، على هذا المنوال مضت أربعون، كسنيّ يوسف، مات فيها ضمير العالم، وانقطع الرجاء واحتارت العيون وهي ترقب الجراح نازفة دون من يضمدها، تُرك مهد المسيح ينزف، يحترق بصليات الرصاص، يُمنع الأذان في مسجد الفاروق عمر المجاور وتشتعل فيه النيران.
مدّ وجزر ومفاوضات، أظهرت عوار الغرب ونفاق مَن ساوموا على صبر المضطهدين وعذابات ذويهم، جاءت وفود وغادرت أخرى، لم تفلح إلا بإخراج جثامين الشهداء بعد عناء وإخراج بعض المصابين ورفض إخراج آخرين ليغادروا إلى المستشفيات، يمضي اليوم بطيئاً، ثم مضت الأيام سنيناً ثِقالاً، أوجاعاً يعتصرها القلب، أعمدةً من الدخان سوداء ملتهبة تخترق سماء الوطن، وسواد يلفّ المكان والزمان، لم تكن ساعات رفع منع التجوال التي كنا نحظى بها مرةً في الأسبوع أو مرتين كافيةً للملمة بعض الجراح، ولا حتى للسير إلى الأمام خطوة واحدة، لم يكن بوسعنا خلالها إلا أن نتشارك في تشييع جثمان شهيد أو نقل مصاب ولربما أخفقنا، فكان للشهداء أن يدفنوا سريعاً دونما مراسم وللأموات أن يُدفنوا في منازلهم إذا ما لاح في الأفق أنباء عن رفع لمنع التجوال أو إطباق للحصار.
في ذاكرة الاجتياح المر، كانت "لما الأرض تنادي رجالك" تتعالى صيحاتها عبر التلفزة المحلية، فتترسّخ معاني الصمود وتعلو بها همة المكبّلين بالقيود والحصار و"جمّالنا ياما حمل" تحكي عن النكبات والتحدي والشموخ وبُحّ صوت " جوليا " وهي تنادي على الملايين وتستصرخهم بوجع الأرض، أما "على جناح كل غيمة مسافرة " فكانت تحمل مع الغيوم رسائل الشوق إلى بيت المقدس غير بعيد من هنا، تحمل السلام من بلد السلام إلى بقاع الوطن التي ينهكها الجرح والألم.
أربعون يومًا من الحصار بدأت مراسمها الموشحة بالسواد بشهداء "آل عابدة" تستشهد الأم والابن فيما يبقيان مضرجين بدمائهما لأكثر من 24 ساعة والابن الجريح الآخر يتوسد دماءهما والدموع، في مجزرة بشعة لا تقل بشاعة عن كثير من المجازر غير أنه لم يُكتب لها التوثيق وضاعت بين ركام وحطام الحصار والاجتياح ، تتكرر المشاهد، يطال الرصاص مَن هم داخل الكنيسة فيرتقي الأول والثاني وصولاً إلى تسعة من الأقمار قضت بالرصاص في البقعة المقدسة، في كل ليلة من تلك الليالي يتجدد التهديد والوعيد باقتحام الكنيسة يحاولون مرةً وأخرى ويفشلون، ونحن من شبابيك المنازل نرقب تلك اللحظات وأزيز الرصاص يسلب المتعبين لذة النوم بعد يوم حافل بالمداهمات والتنكيل والملاحقة.
أربعون يوماً ومئات المحاصرين داخل أروقة الكنيسة لا تغفو أعينهم مرابطين يقظين يحمون بصدورهم وأجسادهم كنيسة المهد من أن تكون لقمة سائغة لذلك الاحتلال الأرعن الذي كان يتحيّن الظروف والأوقات لاقتحامها، يأكلون العشب ويقتاتون أوراق الليمون، ويتجرعون الألم أسوةً بعشرات الآلاف الذين باتوا خارج أسوار الكنيسة يقاسمونهم ذات المصاب.
ينتظرون لحظة الخلاص في مشهد كانت ملامحه ترتسم وتتهيأ منذ البداية، إما أن يسلّم الرجال أنفسهم أو تبقى المدينة رهينة تحت سطوة الجلاد، يأبى الرجال الخضوع والتسليم، غير أن ما خبأته الأيام في جعبة الدخلاء أفصحت عنه اتفاقية دبّرت بالخفاء لتعلن انتهاء الحصار، و" نفي" المحاصرين.
بدأ الحصار يتفكك، بدأ الأهالي يقتربون شيئاً فشيئاً علّهم يتنسمون رائحة الأحباب، يحتفظون بعبيرها، لحظات الختام القاسية لخّصتها دموع سخيّة ذرفتها عيون الأمهات يرقبن أبناءهن من على أسطح المنازل على بعد مئات الأمتار يلوّحن بالشالات والأعلام، تزاحمت الكلمات والدمعات أما الألسن فلم تكن إلا لتلهج بالدعاء بأن لا يطول الغياب.
وعلى أسطح المنازل بدأ الصراخ والعويل عندما خطى أول مقاوم من باب الكنيسة باتجاه ساحة التفتيش والمغادرة وتبعه الآخرون، وغادر المقاتلون تنقل صورهم شاشات التلفزة، غادروا المكان وسط زخات المطر الحانية، بدأ الحصار بالمطر وانتهى بالمطر، وما بين البداية والنهاية حكايا رواها الشهداء بدمائهم ضمّخت ترب مهد المسيح وكللّت وجوه المجرمين الصامتين الهالكين بالعار والشنار، للمبعدين الغائبين الحاضرين منّا سلام، للشهداء، وكلكم إليها عائدون.