تُعد "الحروب الصامتة" بمثابة الحرب الباردة في صراع العقول والأمن، تذهب لها الجهات المعادية لتُجنب نفسها الدخول في حروب عسكرية، والهدف منها نشر التشتت وعدم الاستقرار داخل مجتمع مسرح العملية، وجعله دائم الترقب وانتظار ما هو غير متوقع، و وضعه في صورة مبهمة تجعله غير قادر على الرد بعد عدم ترك أي بصمات لها في العملية.
إن جيش الحروب (الاسرائيلي) يُدخل معادلة الحرب الصامتة ضمن قواعد الاشتباك الغير محدودة في صراع الفلسطيني مع الكيان المحتل، وهذا يضع أجهزة الأمن في قطاع غزة أمام تحدٍ أمني كبير، وهذا ما دفع وزارة الداخلية للقول بأن الأمن في القطاع بعد العملية سيختلف عما قبلها، وبهذا دخول المعادلة الجديدة بحساسيتها الأمنية العالية.
إن طبيعة الصراع مع العدو الصهيوني الذي يزرع له الجواسيس داخل المجتمع الفلسطيني تجعل إمكانية الوصول ومعرفة أطراف منفذي العمليات الصامتة ممكناً ، حتى وإن استطاع الشاباك مباشرة اختراق الساحة الفلسطينية وتنفيذ العمليات عبر قوات خاصة تابعة له غير مستقرة في مكان تنفيذ العملية، حيث أن تحركاتها تُربط بمعلومات مسبقة من قبل الجواسيس المتحركون على الأرض والساكنون داخل المجتمع، وهؤلاء يعتبرون أكثر خطراً من تلك القوة المنفذة التى لولاهم لما استطاعت الإجهاز على المُستهدف.
وتعتبر عملية اغتيال مازن فقها ضمن هذه المنظومة التى يعمل من خلالها الشاباك داخل الأراضي الفلسطينية، ومن الطبيعي احتياج الأجهزة الأمنية في قطاع غزة الوقت اللازم للكشف عن تفاصيل العملية والوصول إلى بعض المدبرين وكذلك المنفذين إن كانوا من الجواسيس المقيمين.
إن حركة حماس أعلنت مراراً وتكراراً عن محدودية الصراع مع العدو الصهيوني داخل فلسطين، ويعطي ذلك انطباعاً عن مدى الردود على عملية الاغتيال التى لن تتجاوز الحدود لعدم توسيع دائرة الصراع وتشتيت القدرات.
ويوجد بين يدي المقاومة هذه المرحلة للرد على العملية عدة خيارات، منها:
الأول/ إدارة صراع إعلامي موجه للكيان الصهيوني يجعله في قلق وحظر عن ماهية الرد الذي لم تعرف وجهته حتى اللحظة.
الثاني/ الرد المسلح الفردي المنطلق من مدن الضفة الغربية، وهذا ما يتوقعه العدو الذي يكثف من حملات الإعتقال وبناء المزيد من الحواجز والبوابات داخل المدن.
الثالث/ الكشف عن قتلة الشهيد والمساعدين لهم والعمل على إعدام المتورطين من الجواسيس.
ومن المستبعد رد حركة حماس عبر عمليات قنص على حدود غزة أو تفجير جيبات متحركة للعدو داخل الحدود، أو حتى إطلاق صواريخ، فحماس غير معنية برد عسكري يأخذ غزة لمواجهة شاملة على أقل تقدير في الوقت الحالي ذو الظروف الغير مهيأة في المنطقة وداخل الحركة.
إن أولى الاتهامات الموجهة للشهيد مازن فقها هي إدارة خلايا تابعة للقسام في الضفة الغربية وتوجيهها لتنفيذ العمليات والعمل على استمرارية إنتفاضة القدس، ولَم تندفع (إسرائيل) لهذه المجازفة إلا بعد التأثر الكبير الذي لحق بها من العمليات الموجهة من الضفة ضدها.
لا يُخفي على أحد القدرات الأمنية والقتالية التى يتمتع بها أفراد جهازي الشاباك والموساد الصهيوني لحساسية العمليات المناطة لهم وقدرتهم على المراوغة والتنفيذ في أي ساحة أرادوها حول العالم، إلا أن غزة نجحت في كبح جماحهم في مرات عديدة، وليست هذه هي العملية الأولى ولن تكون الأخيرة في ظل صراع مفتوح مع الاحتلال على أصعدة عديدة.
أبدت وسائل الإعلام الرسمية وقرارات الأجهزة العسكرية متمثلة بوزارة الداخلية وفصائل المقاومة قدراً عالياً من الانضباط والتوازن في التعامل مع الحالة الهائجة التى أراد الاحتلال الصهيوني ترويجها عبر إعلامه الموجه ضد غزة، وكذلك قرارات النائب العام التى حظرت النشر في قضية اغتيال مازن فقها، واستجابة الشارع الغزي للتعليمات الواردة يعكس ذلك مدى تماسك الجبهة الداخلية للقطاع.
غزة قادرة على امتصاص الضربة المؤلمة ليس إلا أنها تثق بمقاومتها وأجهزتها الأمنية التى لا تقبل بأن تصبح ساحتها مسرحاً للجريمة.