شبكة قدس الإخبارية

طيار أبو عمار.. ذكريات فوق الغيوم عصية على النسيان

إباء أبوطه

رام الله - خاص قدس الإخبارية: رغم مضيّ 17 عاماً على ترك مهنة الطيران، غير أنه لا يزال يحمل أكواماً من الذكريات، تظهر على "دبّوسه" المنقوش بكوفية الشهيد الراحل ياسر عرفات، يضعه شمال صدره، يروي به حديثاً مكنوناً عصيّ النسيان.

أبو خالد (60 عامًا) الذي رفض أن نستخدم اسمه الصريح، هو أحد طياري القوة الجوية للرئاسة الفلسطينية، والبالغ عددهم 13 طيارًا، إذ بدأت رحلة عمله عام 1984 حتى العام 2000، كان يطير بالراحل عرفات إلى دول عربية وأجنبية، يعايشه قرباً، مسترجعاً ذكريات المهنة التي انتهت باستشهاد الرئيس.

"التحقت بتنظيم حركة فتح عندما كان عمري 12 عاماً، فقد كنت حينها "شبلاً" صغيراً، وبقيت حتى بلغت 17عاماً، تلقيتُ تدريبات عسكرية في المخيمات الفدائية بلبنان، ثم التحقت بكلية الطيران في يوغسلافيا، وفور تخرجي تم تعييني كأحد طياري عرفات، ليطلق عليّ الرئيس حينها لقب "جيفارا" كاسم حركي"، يستذكر أبو خالد.

ويضيف لــ"قدس الإخباريةأن أولى رحلاته كانت إلى جمهورية اليمن، حيث أقلَّ الرئيس بطائرة "هليكوبتر" بهدف تفقد مواقع الفدائيين الفلسطينيين في اليمن، إذ كانت مقسمة إلى شمال وجنوب قبل أن تتوحد في العام 1990، ثم تلاها رحلات إلى دول عربية عدة كالعراق، تونس، الجزائر. ودول أجنبية كيوغسلافيا، ألمانيا، روسيا، قبرص وغيرها، لتبلغ رحلات أبو خالد مع الراحل عرفات ما مجموعه 1400 ساعة جوية.

طقوس عرفات في الرحلات الجوية

وعن طقوس الرئيس عرفات أثناء رحلة الطيران يقول أبو خالد: "يفتتح رحلته بقراءة القرآن، فقد كان ذلك يتكرر دوما في كل رحلاته، كما كان يكثر التنقل بين غرفة القيادة ومقعده كي يطمئن على سلامتنا كطيارين وعلى مسار الرحلة، وكان يقضي وقته بمتابعة الأخبار من خلال شاشة التلفاز في الطائرة".

ويتابع أبو خالد لـ "قدس الإخبارية"، "كان الرئيس يبتدئ إفطاره بتناول ملعقة عسل، ثم ما توفر من الطعام كالزعتر أو اللبنة، فقد كان تناوله للطعام خفيفاً، كما لم يكن نومه عميقاً وإن طالت ساعات الرحلة، فقد كان يسهو من حين لآخر".

ويلفت قائلاً: "لقد كان يعيش حياة الفدائي، لا تشعر بأنه رئيس، خاصة حين يأتي موعد الغداء، فقد كان يوزع علينا الطعام قبل أن يبدأ، نشعر معه بالطمأنينة والأمان كما لو أنّنا أبناؤه، فقد كان شخصاً اجتماعياً، وخفيف الظل، حيث يحلل دوماً الواقع السياسي العربي من خلال نكات".

وعندما وجهت مراسلة "قدس الإخبارية" سؤالًا لأبي خالد عن أكثر مواقف الرئيس تأثيراً، فأجاب بأنه في إحدى الرحلات الجويّة، كانت تنطلق ثلاث طائرات، اثنتين فلسطينية وثالثة إسرائيلية؛ لوجود اتفاق يمنع تحليق القوات الجوية الفلسطينية وحدها فوق المستوطنات؛ "في إحدى الرحلات الداخلية من مدينة رام الله لقطاع غزة، أصيبت الطائرة الإسرائيلية المرافقة بخلل ما، وتلقينا أوامر بالهبوط معها في مطار تل أبيب، رفض الرئيس الاستجابة لذلك وأكملت الطائرة رحلتها لغزة، بينما هبطت طائرتنا الأخرى مع الإسرائيليين".

ويكمل حديثه: "كان ذلك في تمام الساعة 12:00 ليلاً، بقي الراحل عرفات يراقبنا من نافذة الطائرة إلى أن هبطنا كما روى لي أحد المرافقين، فلم يغف حتى عادت الطائرة أدراجها لغزة".

لم يكن عرفات يخشى الأماكن المرتفعة أو التحليق عالياً، حيث يصفه أبو خالد بأنه" كان طيّارًا دون شهادة" لخبرته كمسافر باتجاهات الريح، ورحلات الطيران.

بلغ عدد مرافقي الرئيس الراحل عرفات في كل رحلاته قرابة 10 أشخاص، من بينهم الحاج إسماعيل جبر الذي كان يرافقه في معظم رحلاته، إذ كان حينها مساعداً لعرفات ثم تبوء منصب القائد العام لقوى الأمن الفلسطينية في المحافظة الشمالية والجنوبية، بالإضافة لمرافقين آخرين كالطباخ والمصوّر الصحفي.

لقد كانت حياة الراحل عرفات والظروف التي عاشها حينئذ صعبة، إذ كان يبدأ جدول أعماله وسفرياته من ساعات الفجر الأولى، فلم تكن له حياة خاصة بالمتعارف عليه، وكانت مكتظة بحضور الاجتماعات واللقاءات السياسية، وكان عادةَ يعود أدراجه في منتصف الليل؛ وفق تعبيره.

في الثمانينات: منظمة التحرير بسلاح جوي

وعن واقع منظمة التحرير الفلسطينية في ثمانينات القرن الماضي، يبيّن أبو خالد لـ "قدس الإخبارية"، كيف كان لمنظمة التحرير مندوبون باسمها في معظم الدول العربية، لا سيما وأنها كانت تتمتع بسلاح جوّ وطيران مدني، وملاحة بحرية ولجنة علمية بالإضافة إلى مصنع ألبسة خاص بها في بعض الدول العربية كالعراق واليمن ولبنان، لكنّ بعد خروج المنظمة من لبنان عام 1982 فقدت كل امتيازاتها.

ويضيف؛ أن القوة الجويّة الفلسطينية، كانت مقسمة على عدد من الدول العربية، فقد كانت تخرج منظمة التحرير ببعثات طيران إلى تلك الدول، يقومون خلالها بتشغيل الطيران الفلسطيني، أو تأجيره للحفاظ على أدائه وجودته.

قصف مطار غزة واستشهاد عرفات

في شهر رمضان، عام 2001 قصفت طائرات الاحتلال مطار غزة، الوحيد في مناطق سيطرة السلطة الفلسطينية، يروي أبو خالد قائلاً: "وقفت ثلاث طائرات إسرائيلية فوق البحر، أصابوا طائرات الرئيس الثلاث إصابة مباشرة ما أدى إلى تدميرها، لكن لم يؤد ذلك إلى حدوث أية إصابات بشرية، لوجودنا في مكاتب الطيران الداخلية، والبعيدة نسبياً عن مكان قصف الطائرات".

وأضاف؛ أن الأضرار لم تلحق بالطائرات فحسب، بل طالت أيضاً مبنى الخطوط الجوية، وموقع صيانة الطائرات، ومحطات الراديو الملاحية، والتي تقدر قيمتها ما يقارب 50 مليون دولار، ليتجمد الطيران منذ تلك اللحظة حتى الآن.

في الثاني من مارس/ آذار العام 2002، كان الراحل عرفات حينئذ محاصرًا في مدينة رام الله، ظهرت عليه أولى حالات التدهور الصحي الشديد، ما استدعى نقله من خلال طائرة مروحية للأردن ثم لفرنسا للعلاج.

يقول أبو خالد لـ "قدس الإخبارية"، "عندما رأيت عرفات يصعد للطائرة يرفع يده مودعاً علمت أنه لن يعود، أدركت أنها ستكون آخر اللحظات التي يعيشها في الضفة، وآخر الظهور الإعلامي، فسنين العشرة التي عشتها بالقرب من الرئيس، جعلتني أدرك كل إيماءة يقوم بها".

وحول ما إذا كان يأمل بالعودة كطيار في القوة الجوية الفلسطينية، يبيّن أن الطيران الفلسطيني لم يزل قيد التجميد، فالاحتلال يحتجز طائرتين للسلطة الفلسطينية في روسيا، ويمنع إدخالها للضفة الغربية، فالرئاسة الفلسطينية تسافر لرحلاتها الجوية من خلال مطار الملكة علياء في الأردن.

ويضيف: "تقاعدت عن أداء مهنة الطيران منذ قصف مطار غزة واستشهاد الراحل عرفات، ولو عادت الخطوط الجوية الفلسطينية كما كانت مسبقاً سأكون سعيداً بالعودة لمهنتي كطيار".