"شوارع المخيم تعجّ بالصور، شهيدنا تكلم فأنطق الحجر" لا اعلم لماذا أردد هذه الكلمات كل صباح، أثناء مروري على كم هائل من الصور المعلقة على جدران أزقة المخيم، صور بذات الطابع والكلام، الفارق فيها صورة الشخص واسمه..
لم يكن الشهيد محمد الحطاب أول شهيد يرتقي على أرض مخيم الجلزون شمال رام الله، ولن يكون آخرهم بالطبع، ولكن مع كل شهيد يرحل، نستمع كأهالي المخيم الى حديث عن آخر اللحظات التي عاشها الشهيد، فتفطن كل مرة أن الشهيد كان مودّعاً ولم يكن يتصرف بتلقائية معتادة..
الفارق في قصة الشهيد محمد أو كما تناديه أمه "أبو صالح" أنه وحيد أمه مع أختين، تعاهد مع والدته قبل استشهاده بعامين ألا يترك أحدهما الآخر، ولحظة الاستشهاد صدّقته والدته وكّذبت رحيله، فهي أكثر ثقة بطفلها لا بالواقع المحيط بها رغم أنه واقع لا مجال للعدول عما فيه من أقدار وإن كانت مؤلمة لهذا الحد، فمحمد تعرض لغصابة سابقة خلال مواجهات مع الاحتلال على مدخل المخيم قبل عامين، ما استدعاه للسفر الى الاردن لاكمال علاجه، وكانت رفيقة دربه أمه..
تقول إحدى العاملات في مجال الخياطة في مخيم الجلزون، وهي جارة وصديقة والدة محمد الحطاب، إن محمد أرسل اليها بدلة رياضية لتقصيرها بما يتناسب مع طوله، ولكنها تأخرت عليه أيام، الى أن ذهب اليها الشهيد يوم الأربعاء وقال لها بالحرف "نفسي ألبسها، قصريلي اياها" فعملت بما طلبه محمد في محاولة منها لارضاء طفل فرحٍ بزيّ جديد اشتراه وينتظر فرحة ارتدائه، وتضيف السيدة أن محمد حدّثها في ذلك اليوم بأمور كثيرة وطيلة حديثه ظلّ مبتسماً، حتى أنها ظلت هي مبتسمة على حديثه بعد دقائق من مغادرته لمخيطتها، فيما استشهد محمد مساء الخميس وهو مرتدياً البدلة الرياضية، فكان مودعاً لجارته ولما ارتداه..
والده محمد ما تزال في لحظة صدق مع طفلها وليس مع الواقع، فبعد استشهاد محمد بيوم، استيقظت صباحاً، وذهبت الى صاحب السيارة التي كانت تقلّ محمد ورفاقه في المدرسة الى مدرسة الأمير حسن في بيرزيت، وقالت له "تعال صحّي محمد ووصله على المدرسة، برن عليه مش راضي يرد عليّ"، وفي كل مرة يذكرها الناس بالواقع سارعت الى مقبرة المخيم تحتضن قبر طفلها احتضان الام لجسد طفلها، فتلتصق أم محمد بالتراب كالتصاقها بنجلها قبل ورحيله مودعاً..
"ما بننكرش انّا بنبكي على الشهدا، في كل بيت عرس ودمعتان" قُل لي بربك، كيف نقنع أم الشهيد أن تبات لياليها وهي تنتظر باب بيتها أن يشقّه ابنها الوحيد عائداً من تأخيره الليلي، وتمسك لسانها عن توبيخه!، قل لي بربك كيف ستحتمل أم وحيدها أن تقضي ليلها بين جدران منزل ما عاد يستوعب فاجعتها، بينما وحيدها ممدد في القبر، قل لي بربك كيف يربُت أهل الشهيد على كتف أمه وهي التي تسأل "بده مني مصاري بعطيه، بس خلوه يصحى" تقايض المال وهي على استعداد أن تشتري العالم بأسره، على أن يحيا ابنها نفساً آخراً، وينطق فيها بكلمة "أمي"!، الكلمة التي ما سمعتها من ذكر إلّاه.
قل لي بربك أي ليلٍ سيأتي وأي نهار ستنتظر أم محمد لتعلن لروحها اشراقة جديدة، وروحها دُفنتفي باطن الأرض! قل لي بربك أي دمعة تلك التي ستسيل على وجنتيها ولا تترك أثراً، وهي التي تحمل ملح ابنها الوحيد، ملح الأرض والوطن، وملح الفراق! أكان حقاً عليكم الفراق يا محمد، كيف استسهلت فاجعة أمك وكيف رحلت؟ كيف رضيتَ هذا الليل وهذا الحال بأمك؟ أعلم أنك رضيته لنفسك، ولكن عُد ولو لدقيقة، أمكَ أفجعتنا، وأفجعت مخيماً هو على استعداد أن يفدي الوطن بكل شيء، عد يا محمد، فلو ترى أمك كيف أفجعتنا، لما رحلت، لما رحلت ...
من فاجعة المخيم، كتبت..