من قال إن الثوار يموتون ...يموت الجسد وتبقى الفكره صداها يفوق ما يصنعه الجسد ...الفلسطينييون اليوم ليسوا بحاجة أن يقرأوا تاريخ جيفارا وهوشي منه ومانديلا وغيرهم ...والسبب لانهم يملكون نماذج لا تقل ثورية عن هؤلاء ...الثوري الذي ارتقى في سماء مدينة البيره زاوج بين البندقية والفكرة فلما سقطت البندقية صعدت الفكرة إلى الشمس تساعدها على السطوع في وضح النهار...
باسل الاعرج الصيدلاني المثقف صاحب نظرية (ثقافة الاشتباك) في ذمة الله شهيدا بعد اشتباك حقيقي لا على الورق مع مئات الجنود استمر لساعتين... باسل الذي توارى عن الأنظار كان يعلم أن ما خطته يداه وحاضر به أمام الحركة الشبابية الفلسطينية لن يصبح (نظريات) إلا إذا طبقه بالحذافير على الأرض... في كلية القانون في جامعة النجاح قال لنا أستاذ القانون العام أرجو أن تكتبوا أوراقا عن الفارق بين النظرية والتطبيق... لكن نظريات الثوار لا فارق بينها وبين التطبيق أو هذا ما أراده باسل الأعرج وكان له... حتى في الوصية التي كتبها الشاب فلسفة أنا على ثقة بأنها ستدشن يوما في سفر من الأسفار...
((إن كنت تقرا هذا فهذا يعني أنني قد مت وقد صعدت الروح إلى خالقها)) وها نحن نقرأ ما كتبت لكنك الآن حي ونحن الأموات ((لكم من الصعب أن تكتب وصيتك ومنذ سنين انقضت وأنا أتأمل كل وصايا الشهداء التي كتبوها لطالما حيرتني تلك الوصايا، مختصرة سريعة مختزلة فاقدة للبلاغة ولا تشفي غليلنا في البحث عن أسئلة الشهادة))، كم من الصعب أن تكتب كلماتك الأخيرة في ساعتك الأخيرة في مكانك الأخير قبل أن تحتضن الموت وكأنه طفلك الذي تشتاق إليه منذ سنين...
وأسالك هنا أيها الباسل هل للموت صوت هل له إياد وأرجل هل له رائحة تشبه رائحة البارود أم كرائحة المسك المعبىء في أكمامك وفي جعبة الرصاص التي حملتها... وكيف جعلك الموت بليغا فهل البلاغة لها مكان في ركنك الحصين والنار تحيطك من كل مكان وهل الشهادة تشفي غليل الثائر الذي بحث عن أجوبة على مدار تاريخ حمله للبندقية...
((إن ما اقعدني عن هذا هو سؤالكم أنتم الأحياء، فلماذا أجيب أنا عنكم فلتبحثوا أنتم، أما نحن أهل القبور فلا نبحث إلا عن رحمة الله))، عذرا يكفينا من الإجابة ما أجبت بجسدك ويكفينا من النظريات ما كتبت بدمك كم هي لغة أصحاب القبور بليغة لأنها لغة لا يفهمها إلا من باع دنياه وعرضها بآخرة وجنة عرضها السماء والأرض...
صورة البندقية والقلم والورقه وحاجيات باسل مجتمعة ترسم لوحة لصاحبها... حتى العشب الذي داسته أقدامهم وهم قادمون للمعركة عاد ليقف شامخا وكأنه يقول لهم إن بصيلاته والجذور عاهدت باسلا أن لا تنحني وأن تظل في المكان... حتى الحمائم التي كانت تنقل لك الأخبار وأنت في زاوية بين الأحياء ولست منهم جاءت تحمل لمن أقنعتهم بأفكارك الأخبار للمرة الأخيره... هديلها أيقظ النيام في زمن الانهزام والتراخي والتهاون والمهادنة...
لو كانت روايتك فيلما أجنبيا لقلنا ونحن نشاهده إنه من صنع الخيال العلمي، لو كانت حكايتك في الكتب نقرأها لقلنا أسطورة بالغ الكاتب في تمجيد بطلها... لكنك لست رواية ولا فيلما وإنما أنت حقيقة، فكيف لنا ألا نصدق أعيننا أم أن على العين غشاوة... أنت لست أنت، اليوم أنت أيقونة يرسمها كاهن في كنيسة قديمة مررت عنها يوما وأنت تمر على بلادك وتقبل حجارتها وكان أولى بها ان تقبل أقدامك... أنت قديس انحنى أمام الخالق راكعا لدهر فكان له كرامة نشرت السلام بين العباد... لا عجب أنك ترحل وتصنع من الرحيل والغياب حضورا دائما لا ينقطع ولا ينتهي.