يقول الإمام محمد الغزالي في كتابه "خُلق المسلم": "الإكراه على الفضيلة لا يصنع الإنسان الفاضل، كما أن الإكراه على الإيمان لا يصنع الإنسان المؤمن، فالحرية النفسية والعقلية أساس المسئولية، والإسلام يقدر هذه الحقيقة ويحترمها وهو يبني صرح الأخلاق".
وفي نفس السياق، تعرف الفضيلة، التي هي وراء كل حملات حركة حماس بأنها "ما يُسهم في تحسين معيشة الفرد والمجتمع ولهذا فهي من الخير". ويبدو جلياً كيف سعت الحكومة، في قمعها للحريات، وتدخلها في قصات شعر الشباب، ولباس الفتيات، ومشكلة الكهرباء، كيف سعت تماماً لتحسين حياة الناس، على هذا المستوى الذي يفترض له أن يكون هامشياً، في ظل الاحتلال الإسرائيلي، بعيداً عن الشعارات. وكيف أنه ليس هناك، في غزة حماس، ما يُسهم في تحسين معيشة الفرد، ولا المجتمع، ولا كان للحرية النفسية العقلية أن تكون.
قبل اربعة أعوام، في صيف 2009 وعلى شاطيء البحر الذي تقام من أجله حملة الفضيلة، التي تعمل بـ"إثبات صلة قرابة بين كل شاب وفتاة يمشيان معاً على الشاطيء"، هاجمت قوة، تابعة لحركة حماس، الصحفية أسماء الغول وهي برفقة أصدقاء لها، وذلك لأنها كانت، حسبما قالت الغول، لا ترتدي الحجاب، ولأنها تمشي على البحر بدون محرم. أسماء الغول وهي صاحبة الرحلة الشهيرة على الدراجة الهوائية التي باتت ممنوعة على الفتيات في القطاع، كما "الأرجيلة"، وغيرها، في مرحلة ما بعد "حماس" .. تسير دون حجاب على عكس التيار الجارف في غزة، وتصر في حديثها، كما ورد في جريدة الأيام الفلسطينية، على الدوام بكرهها للظلم الواقع، وكل ما هو شمولي، متحدثة عن حكاية اعتقالها لمجرد كونها تجلس برفقة أصدقاء وصديقات، وأمام الجميع، وكل تهمتها أنها لا ترتدي حجاباً، متسائلة باستهجان: من متى كان للفضيلة زي وللرذيلة زي في فلسطين؟!
كان الشاهد لمداهمتها واضحاً تماماً، وبلا حاجة لوثيقة نيابية للتوقيف .. مخالفة "عادات وتقاليد شعبنا" والإخلال بالآداب العامة للمجتمع، الذي تتضافر حملات حكومة حماس لتحديد شكله، ومضمونه وأبعاده، بما لا يخالف شرع الله، أو "بما لا يحتاج لوجود قانون"، وبأسلوب لا يخلو من العنف الفكري والجور على حريات الناس؛ و تتكرر انتهاكات أمن حكومة حماس للجو العام، وتقييدها للتحرّك من قبل من هم ليسوا أنصاراً لها، بالكم الذي لا يعد ولا يُحصى، وكل ذلك لإحلال الفضيلة، فضيلتهم.
منذ أن قامت كتائب القسام، الذراع العسكري لحماس، بالسيطرة على قطاع غزة بالقوة وإنقاذه من "مشروع أوسلو"، حسبما كنت أرى، من منظور مختلف للعملية، في ذلك الوقت؛ بدأت الناس باستشعار الأضرار المفرطة في الحساسية كونها تتعلق بحرياتهم وحقوقهم الأولية في العيش بكرامة وأمان. أشبع مسؤلو حركة حماس مسامعنا بالحديث على الدوام عن حمايتهم لحقوق الإنسان في غزة منذ وقوعها تحت حكم حماس وحتى هذه اللحظة، وعن صدرهم الرحب للمختلفين معهم فكراً وعملاً، وعن مراعاتهم لما هو "شأن فردي" وما هو "مصلحة عامة"، لكن ما القول دائماً غير الفعل عندما يتعلق الأمر بحرية الناس.
في صيف 2012 كنتُ خارجاً في نزهة إلى شاطيء البحر برفقة إخواني وأصدقائي، وككل من يذهب للبحر صيفاً، قمت بالسباحة قليلاً، ومن ثم خرجت لأجلس على الرمال، بملابس السباحة، فأنا على الشاطيء وقد أشتهي السباحة لاحقاً قبل الغروب. وبينما نحن جالسون في خروج عن عادة الملل والإلتزامات اليومية، جاء رجل من جهاز المباحث العامة وقال بأننا مُلزمين بارتداء قمصاننا حالاً لأننا لسنا في "أوروبا" وهؤلاء النساء اللاتي يتواجدن على الشاطيء هم "ولايا" ولكم أخوات. كان بيننا شاب يُدعى ع. م، وقد استفزه الأمر إلى درجة أنه قال للرجل الأمن بنبرة قوية إلى حدٍ ما بأن هذا حرية شخصية وأن ما نفعله ليس جريمة مُلزمين بالكف عنها. لم يقل رجل الأمن سوى عبارة واحدة: "سأرسل لكم من يجيد التعامل معكم".
ولا يكف مسؤلو حماس عن القول بأن ما يظهر إعلامياً من انتهاكات الحكومة وأمنها، أن ما يحدث هو تصرف فردي من بعض رجال الشرطة، والتبعيض هنا للنفي والتقليل، وأن الحكومة ليست معنيّة بإثارة تلك المسائل حالياً لأن هناك ما هو أهم من ذلك، وكأن الشرطة لا تعبّر إلا عن فردانية عناصرها، وطيشهم المفرط؛ وليست هي مسألة فرض أيديولوجية جماس، وتدرج ممنهج في التطبيق، تحت شعار "أسلمة" المجتمع الذي هو مُسلم بطبيعته، ونبذ الرذيلة، في مجتمع مُحافظ أباً عن جد.
جزء كبير من الناس ليس حمساوياً، ولا مؤيداً لهم حتى، لكن حين يتعلق الأمر بمقاومة حماس المسلحة للإحتلال، وعن دور حماس في ملاحقة العملاء والمتخابرين مع الاحتلال، يتغير مجرى الحديث عن شيء آخر هو فخر للجميع وكرامة، حتى أنني قلت بعد الحرب الأخيرة على غزة، أن ما فعلته حماس في حرب الأيام الثمانية، نوفمبر 2012 هو خير بلاء، لكن .. لو تترك الناس وشأنهم. لقد عبرت حركة حماس بعد الحرب حدوداً كثيرة كان أولها حدود الشرعية التي لا تحتاج لا لصندوق انتخابات ولا للاعتراف الدولي بها، كانت قد حازت على شرعية الانتصار، عندما يشعر الناس بأن الحركة المُنتصرة، التي جلبت الكرامة للشعب الفلسطيني، التي دثّرت اسرائيل بالتراب، هي هي، من تقمع حريات الناس، وتتدخل في شؤونهم الخاصة، لا بد من مشاعر انفصام وتناقض.
لو اكتفت حركة حماس بقبول شعبي لها بعد انتصار المعركة التي كان جناحها العسكري فيها هو صاحب الريادة، مجرد القبول والشعور بالتصالح أكثر من أي وقتٍ مضى، لكان خير ما فعلت، لا بد من أن شعور حماس بأنها المشرّع والوليّ على الشعب ما كان إلا نتيجة حتمية للشعور بهذه الشرعية، والتي تكاد تصبح شرعية ضالة إذا ما استخدمت بهذه الصورة من التسلط، مثلما تفعل حماس الآن.
تساوي حماس الناس بالأطفال القصّر، العجّز، من يحتاجون يد قوية لترعاهم وتوجههم، حسبما يقيس جون ستيورات ميل سلطة المجتمع المتمثلة بالعرف، وسلطة الحكومة المتمثلة بالقانون. وتأكيداً لذلك، يأتي السيد أيمن البطنيجي المتحدث باسم شرطة حماس ليقول بأن "هناك ما لا يحتاج لقانون ينص على فعله"، بما معناه، تصوّرنا عن أشكال الناس، وتصرفاتهم، هو القانون الذي سنحكمهم به، إن تغيّر هذا التصور، بقدرة قادر، سيتغير هذا القانون. تحلق لهذا شعره، وتمزق لهذا بنطاله، وتأمر هذه بلباس شرعي، وتلك بإغلاق جلبابها، لئلا تكون هناك فرصة لإنبات الدعارة في المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة.
لا أستبعد الفصل لاحقاً في سيارات الأجرة بين الذكور والإناث، على سبيل المثال، ومن بعد ذلك تخصيص رصيف للبنات، وآخر للأولاد في شوارع غزة، بعد هذه الكومة من الحملات التي تتوالى واحدة تلو الأخرى، وجميعها تدور في نفس الدائرة، أي حمسنة المجتمع. يرى "ميل"إن أخطر ما يتعرض له الفرد، هو استبداد عرف المجتمع، إن كانت الحكومة تزيد شرعية استبداده، فالإنسان: حُر التصرف في ذاته.