كتب علينا الشتات، نحن كفلسطينيون، كتبت علينا المنافي القسرية منها والاختيارية، هربًا من الحرب بعد أن شبعنا من منظر الدم المراق على مذبح الحرية، او ربما بحثا عن مأوى يقينا حر الصيف وبرد الشتاء، منا من اختار أن يكون منفاه اختياريا وبعضنا الآخر كان قسريًا، كل على هواه، أو لنكون أكثر دقة، على هوى ما أجبر عليه
في الحقيقة، لم نختر أن نكون منفيين على ناصية الزمن والوطن والأرض، كتب علينا ذلك حينها رغمًا عنا، كتبه حكام ذلك الزمان حين جمعوا جيوشهم الكرتونية لتهزم أمام عصابات قدمت من مختلف أصقاع الأرض لقتلنا، مجموعة عصابات حملت في طياتها من الأفراد الحفاة العراة الجهلة، ولكنهم هزموا!!!
في الحرب صمدنا وقاومنا ولم نهرب، بقينا مغروسين في أرضنا كأوتاد خلقت لتبقى، استشهد بعضنا، وأسر بعضنا الآخر، وبقينا صامدين صمود سور عكا في وجه نابليون الغازي، قدمت الجيوش ‘لينا من كل حدب وصوب حاملين تصريحاتهم النارية بيد وبالأخرى راية الاستسلام التي لم نراها
خطاباتهم كانت نرجسية، وأفعالهم بهلوانية، وأقوالهم كانت تتحدث بأنهم قادمون للدفاع عنا ولحمايتنا فخرج أجدادنا تحت لوائهم، فانتقلوا من حضن الوطن ومن بين حطام الموت ورائحة الدمار إلى حضن الغربة ونيران الشوق والمنفى، قبل أن يتم كيهم بنيران الغدر والخيانة العربية
في الحقيقة هنا أيضًا، هذا لم يكن قرارنا، اعني الخروج، كان قرارهم هم وحدهم، الذين اخذونا تحت لوائهم واستمروا بطغيانهم على الرغم من انهم مهزومون، ولم تتضح لنا اللعبة، قالوا بضعة ايام وستعودون، ولم تنكشف المؤامرة، مرت الايام وكبرت واصبحت دهرا، ومازلنا في امكاننا منفيين،
مضت الايام وتلاحقت فيما بينها بلا هوادة، تصارع بعضها بعضا من اجل سحقنا اكثر واكثر، تركض وخلفها الوطن المسلوب لا تراه، كبرت المخيمات وتحولت الخيمة الى بيت معدني، والايام تركض ولا ترانا وكأن معاناتنا شيء لا حاجة لها لذكره، فكبر المعدن واصبح بيتا طينيا ومازلنا منفيين،
استجمعوا قواهم علينا، وجيوشهم استلت اسلحتها المهزومة امام العدو من غمدها لتشرعها عن اخرها في وجهنا ولذبحنا، ذبحونا وشربوا من دمنا حتى الثمالة، صعدوا على اجسادنا بالدبابات وقصفونا بالصواريخ، اخرجوا كل عتادهم، وظهرت قوتهم الحقيقية في قهرنا اكثر واكثر، اما التهمة فكانت اننا فلسطينيون صدقناهم حينما كانوا يكذبون
مضت الأيام، وفي كل عام كان لها علامة مميزة تختلف عن سابقتها، اضحت علاماتها على الجسد كالوشم الذي لا يمحى إلا بالنار ولابد أن يترك اثرا، واصبح لكل لاجئ منا حكاية، قصة يرويها لابناءه، ومن بعدهم لاحفاده، قصص ينقلها عن لسانه لقضيته وكأن لكل منا قضية مختلفة عن الاخر وكأننا ابناء عدة قضايا مركزية او كانت مركزية ولسنا ابناء قضية واحدة
مضت السنون فوق جراحنا الواحد تلو الآخر، تأبى ان تتركنا عاما واحدا دون ان يكون لها علامة فارقة تميزها عن مثيلاتها في اجسادنا المذبوحة، وكانها تريد تذكيرنا بجرحنا الاول حتى لا ننسى، فتراها تمزق القلوب بسيف التفريق بين ابناء العائلة الواحدة، وتمزقهم كل شخص في منفى، ولا تجتمع المنافي فهم ممنوعون من التلاقي
فتجد زوجة وزوجها يسكنون في شطري الوطن يحترقون شوقًا للقاء المجهول المكان والموعد، وتمنع ابنًا من الدخول إلى وطنه لوداع والده قبل رحيله الاخير إلى العالم الآخر، وشقيق يمنع من أن يودع شقيقه اللحد وأن يسير جنبًا إلى جنب مع أشقائه في جنازة شقيقهم
ولكن، على الرغم من حالة التشرذم التي تعيشها أمتنا، والموت المنتشر في منافينا التي أصبحت أوطاننا، نحن عائدون، أسقطت عنا صفة اللاجئون وأصبحنا عائدون، هذا وعد العدالة في التاريخ للمضطهدين، وهو وعد الحق لنا نحن أصحاب الارض
مهما طال الزمن أو قصر سنحرر الأرض رغما عن الوعود الكاذبة وسنعود لنزور قبور من سبقونا ونقبل ترابهم الطاهر ونقول لهم، "افيقوا لقد عدنا، وسيسمعون"