نجلس اليوم على عتبات الذكرى التاسعة لرحيل الجسد وبقاء الفكرة، حيث إن الفكرة تبقى ولاتموت، ففي مثل هذه الايام من العام 2008 وتحديدا في 26 كانون الثاني رحل عنا جسد الدكتور جورج حبش وأودع اللحد الأخير، وبقيت الفكرة لتنير لنا الطريق التي رسمها بدمه ودم الشهداء الذين سبقونا إلى المجد والعلياء، ومجدها بعرق الفلاحين والعمال من احرار شعبنا، ونقول كما قال:
"ثوروا فلن تخسروا سوى القيد والخيمة"
مقولة صاغ حروفها حكيم الثورة الفلسطينية وضميرها الحي الذي لا يموت من واقع رؤيته وقناعته بالسبيل الوحيد لتحرير فلسطين من البحر ألى النهر غير منقوصة حبة تراب واحدة، وهي الثورة فقط.
نقول كما قال لنجدد العهد بالوفاء لتراب من سبقونا بأننا ماضون على دربهم حتى النصر والتحرير والعودة، لنحيي ونستذكر الرجال العظام الذين يشكلون النقاط المضيئة في ثورتنا الفلسطينية التي أفل نجمها ولم ينطفئ، ونتذكر ان تحرير فلسطين لا يأتي الا بالقوة والثورة وليس بالمفاوضات والاستسلام.
الدكتور جورج حبش والمولود في مدينة اللد الفلسطينية في 2 آب من العام 1926، كان مثال الشاب الطموح والثائر، الحكيم والقائد، الذي امتلك الحلم وسخر كل الامكانيات والطاقات ليمهد الطريق امام حلمه ويرصف له الطريق ليصبح واقعا، وصار واقعا.
فاستطاع برفقة رفاق دربه تأسيس حركة القوميين العرب في العام 1956 انطلاقا من رؤيته وقناعته بضرورة الوحدة العربية واقامة الدولة العربية الواحدة من المحيط الى الخليج، مؤمنا بأن القوة في الاتحاد ومما يمكننا ايضا من استغلال خيراتنا العربية لتحقيق الغاية والعيش بكرامة.
واستطاع ايضا تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في كانون الاول من العام 1967 بعد النكسة العربية، عندما تبلورت الفكرة حينها بضرورة تخصيص ذراع فلسطينية تحمل على عاتقها الكفاح المسلح سبيلا لتحرير فلسطين، حيث ولدت الجبهة من رحم حركة القوميين العرب وكتائب الفداء العربي التي كانت تستهدف المصالح الصهيونية في المنطقة العربية والاراضي المحتلة.
اليوم ونحن نجلس على مسافة تسع سنوات من الغياب كم نفتقد للمواقف الواضحة والشجاعة في النقد البناء، والطرح التحريري الخالص والمنطلق من منطق القوة في صراع البقاء مع العدو الصهيوني والجاثم فوق صدورنا،
نفقتد للحكيم الانسان، والذي في بداية حياته المهنية والعملية من العام 1956 قدم من العاصمة اللبنانية بيروت الى العاصمة الاردنية عمان ليفتتح برفقة الدكتور وديع حداد عيادة لعلاج الاطفال بالمجان، حيث كان يرى ان اطفالنا هم رجال المستقبل الذين يعول عليهم في معركة التحرير، وان خدمة شعبنا هي واجبة وفرض على كل حر.
نفتقد الثائر العاشق والذي حينما كان مطاردا في احراش جرش في سبعينيات القرن الماضي في الاردن ارسل رسالة الى زوجته السيدة هيلدا حبش يقول فيها " متى ستلتحقين بالجبل؟ ثائرة وليس زائرة، طبعا"
نفتقد السياسي القادر على المعارضة وطرح الخطاب الثوري من على قاعدة النقد والنقد الذاتي، فانتقد اسلوب عمل منظمة التحرير الفلسطينية في اكثر من موقف معلن منها ما صرح به في 26/10/1974 حينما قال "اعلان انهاء الحرب مع اسرائيل خيانة صارخة ومنظمة التحرير الفلسطينية سارت في الخط السعودي – المصري"، وفي 10/5/1979 حينما قال "الخط السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية مهد الطريق ووفر الغطاء للسادات".
انتقد ورفض خروج قوات الثورة الفلسطينية من العاصمة اللبنانية بيروت في العام 1982، ووصف نتائج المحادثات وما سمي باتفاق غزة – اريحا في 18/12/1993 قائلا "ان خطوة اتفاق غزة – اريحا تفوق نتائج معاهدة كامب ديفيد"، كما رفض جملة وتفصيلا اتفاق اوسلو واعتبره بمثابة استسلام سياسي مذل ومهين واقرار بالهزيمة للقيادة المتنفذة والمتفردة والموقعة للاتفاق.
اليوم ونحن على اعتاب الذكرى التاسعة، يعجز القلم عن وصف قامة هذا الرجل التي تطال عنان السماء، وتعجز الاوراق عن جمع تاريخه في مجلدات لا تنتهي، نتذكر القليل وننسى الكثير، فمن أفنى حياته في خدمة قضيته وأرضه وشعبه قد لا تتسع له الأوراق ولا يكتفي المداد لسرد تاريخه، ولكن تتسع له قلوب الأحرار والمحبين ليبقوا خالدين فيها
اليوم نتذكر ونقول كما قال حكيم الثورة الفلسطينية "تستطيع طائرات العدو ان تقصف مخيماتنا وأن تقتل شيوخنا وأطفالنا وأن تهدم بيوتنا ولكنها لن تستطيع أن تقتل روح النضال فينا"