الجزء الثاني من تدوينة "تسعةٌ وعشرون يومًا"
(....) - أهلا أهلا أحمد.
- لم أكترث لترحيبه ولم أتفوه بأي كلمة
- شو في اشي زاعجك؟
- وأنا لا أجيب، فقط أكرر في داخلي "اللهم اجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا".
- كيف كان أول يوم لك بالزنزانة هل أعجبك الوضع؟ نحن الشاباك الإسرائيلي لدنيا مميزات في زنازيننا مريحة جدا، أطلب ما تريد، أتريد شيئا محددا اطلب لا تخجل؟
- لا أريد شيئا فقط أخرجني من هنا.
ضحك المحقق كثيرًا، واستدار بكرسيه وتعالت ضحكاته أكثر فأكثر، وضرب بيده على الطاولة صارخا "أحمد هو دخول الحمام مثل خروجه".
واستطرد قائلا: لن أطيل الحديث، سأختصر عليك مسافات طويلة وفترة كبيرة من التحقيق نحن هنا نعرف كل شيء، لكننا نحب أن نسمع منك القصة، نحن لا نحب التحدث فقط، نحب الاستماع أيضا، هيا أحمد قل لي ماذا فعلت، أنا أنتظر الإجابة، هيا تكلم تعاون معنا قبل أن أعيدك إلى الزنزانة التي أحببتها.
- أنا لم أفعل أي شيء، إذا كنت تعرف ماذا فعلت قل لي وأنا أجيب إن كان صحيحا أم لا، أنا لا أتذكر أي شيء.
صرخ بوجهي المحقق قائلًا "أصمت أنا الذي أسأل هنا فقط"، ضرب بيده على الطاولة ووقف عن كرسيه الدائري، وبدأت شرارات الغضب تخرج من عينيه، صمت طويلا، وقال: "سأتركك تذهب إلى الزنزانة لترتاح قليلا وتفكر.
ثم اقتادني السجان وهو المعروف داخل السجن بـ"السوهير" بعد أن أغمض عيناي وأحكم وثاق يداي مرورا بنفس الممرات إلى الزنزانة.
عندما وصلت الزنزانة تفاجأت بوجود شخص بداخلها، تعجبت من يكون!... أهو أسير يمتلك الجراح ويفكر بأهله وبمصيبته كيف سيخرج من هنا، أم أنه أحد العملاء المتخصصين بالزنازين والمعروفين بالعصافير.
لم أهتم به ولم أرد عليه التحية أيضا، تمددت على فراشي القذر الذي تشعرني رائحته بالإغماء، قال الشخص الغريب داخل الغرفة: كم يوما لك هنا؟ نظرت إليه، صمتُّ قليلا ثم قلت: إنه يومي الأول.
- ياه لم تتعب بعد.. أنا هنا منذ 15 يوما، لم أتعرف إليك من أين أنت؟
- قلت في عقلي ما شأنه فليخرس.
أنت أول يوم لك هنا، هكذا يكون أول يوم قاسٍ وآثار الصدمة واضحة على ملامحك، أنا اسمي عبد الرحمن من نابلس، تركته يثرثر وحده وبقي عقلي يردد "اللهم اجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا"، حتى غفت عيناي، أفقت من نومي بعد وقت، وتفاجأت أين أنا؟؟
لقد كنت في المنام أرتدي ملابسي للذهاب إلى رحلة، أي رحلة هذه وأنا هنا بين أربع جدران سميكة وخشنة لا تستطيع أن تتكئ عليها، كأني في بئر، أو في باطن الأرض لم يكن أحد في الزنزانة غيري، أين عبد الرحمن كثير الثرثرة لم أشعر بخروجه من هنا، لقد قال لي المحقق سأدعك قليلا لتفكر هل انشغل عني أم أنه يريدني أن أحترق بالتفكير، أنا هنا أضرب أخماسي بأسداسي، لماذا هذا الهدوء!؟
أهو الهدوء الذي يسبق العاصفة، هل سأبقى أفكر هكذا حتى أضعف وأنكسر وأنفجر بما لدي، ماذا سأفعل لأخرج من هذه الدوامة وتلف الأعصاب، سأشغل نفسي بأي شيء حتى لا أفكر كثيرا، سأقوم بعد فتحات الشفاط، الهواء البارد من الخارج أم أنه يمر بمرحلة تبريد؟ هل أمطرت السماء؟ كم اشتقت إلى فراشي الدافئ، عددت الفتحات مرات عدة، ونفس النتيجة لقد فزت، إنها كثيرة جدا ومتقاربة.
فتح نافذة الباب الصغيرة شاب يرتدي البرتقالي عيونه سوداء، يسمى "المردوان" أنا اسمي رامي من شعفاط، أنا أسير مثلك لكني جنائي، تراكمت علي الديون للبنك وأنا هنا بالأعمال الشاقة، إذا أردت شيء أطرق الباب بقوة لكي أسمعك.
تحت رعاية الأسر، حان موعد الغداء.. طبق برتقالي مربع عريض، ذو ستة عيون، في العين الكبيرة أرز أبيض متقرمش، لم يصل لمرحلة النضج بعد، وقطعة دجاج في أسفلها ريش وبداخلها الدم متجمد، كانت باردة جدا، تساءلت كم الساعة الآن، وفي أي ساعة يقدمون الغداء قدرتها الرابعة عصرا، شحنت نفسي بطاقة إيجابية بذكر الله ورددت أسماء الله الحسنى وبعض الآيات، دعوت الله بدعائي الذي تردد على لساني منذ اعتقالي "اللهم اجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا".
عند المساء، فُتح الباب ببطء، أصوات مختلفة خلف الباب، أهو العشاء أم محقق أم زائر، حتى تبين لي إنه نضال، شاب هادئ في الثالثة والعشرين من العمر، يرتدي نظارات ذو لحية خفيفة وعينين سوداوين، رد السلام وتمدد على البطانية تحت الشفاط المدخل للهواء، لم يرتح من الهواء البارد فطلب وضع بطانيته جانب بطانيتي، أغمض عينيه وعم الصمت ساعة أو ما يزيد، ثم انفجر فجأة بالشخير، يعلو ثم يهبط انها موسيقى مزعجة، شعرت بأن روحه ستخرج من علو أنفاسه وانقطاعها، يعمل كالآلة المزعجة، لم أنم للحظة واحدة، لم يهدأ صوته إلا عندما فتح الباب الثقيل.
نودي علي: أحمد..
- نعم
- تعال يلا..
- إلى أين؟
- إلى شوارع يافا نشم الهواء، ممنوع تسأل..
- أريد أن أعرف إلى أين سأذهب،
- لا تخف لن تضيع أنت مع الشاباك الإسرائيلي.
أحكم وثاق يداي واقتادني إلى غرفة تحقيق كالسابقة، لكنها تحتوي على جهازي حاسوب، "فاكسمان" طويل وأبيض، شعره أشقر ووجهه شاحب، كأنه لم يبتسم منذ قرن، صوته عالٍ ومتعجرف، فتح الباب.
- أتريد شيئا تشربه؟
- لا.
وقف أمامي لما يزيد عن النصف ساعة يحدق في عيني، دقات قلبي تتعالى، ماذا سيقول، لم يتحرك أي شي في وجهه، عيناه لم ترمشا ولو للحظة واحدة، قال بصوت عالٍ: أنت مخرب، أنت إرهابي، أنت مخرب كبير.. كل هذا والغضب يخرج من عينيه، جلس على الكرسي قائلا: لن أنتظر كثيرا، قل لي كل شيء فأنا أعرف كل شيء عنك، لماذا تنظر إلي هكذا هيا تكلم.
ثم صمت للحظة، سأروي لك قصة لعلك تفهم وتتعاون معنا ونختصر الطريق الطويل، أنت يا أحمد في الصحراء، لا يوجد أحد سواك، تعبت وعطشت، وجدت بئرا من الماء ليس فيه إلا مقدار قدم من الماء، وقعت فيه وصرخت بأعلى صوتك أنقذوني أنقذوني، لم يستجب أحد، صدى صوتك يعلو ويرد في أذنيك، بعد يوم كامل لم يأت أحد وأنت تصرخ وتصرخ، سمع صوتك رجل في الجبل المقابل، أتى لينقذك لكنه وضع شرطا، أعطني ألف درهم وأخرجك من هنا، أنت رفضت لأنه مبلغ كبير، ذهب الرجل، وبعد أن ذهب لوقت طويل عدت للصراخ، في اليوم التالي عاد لكنه طلب ألفي درهم ورفضت، في اليوم الذي يليه طلب ثلاثة آلاف والذي يليه أربعة ألاف حتى قلت له خذ كل ما أملك فقط أخرجني من هنا.
وأنا لا أريد أن نطيل ونتعب ونتعبك، فقل لنا كل شيء لننهي الملف، أعدك إذا تكلمت سوف أوصي عليك بالنيابة لأنك تعاونت معنا، ماذا هل ستقول شيئا؟
- الرجل الذي في البئر صرخ ونادى بأعلى صوته أنا لم أصرخ بعد ولن تطاوعني نفسي أن أصرخ وأطلب النجدة منك
- أنت كالطفل الصغير تعاند وتكابر وأنا أعدك بأنك سوف تأتي زحفا لتخبرني ماذا فعلت!
يتبع...