غيابات الجب جدران سوداء خشنة، بينها ثلاث خطوات، ضوء أحمر خافت، بطانية خفيفة السمك، رائحتها نتنة، ولباس بني داكن، وفي أعلى السقف شفّاطان، الأول لإدخال الهواء والآخر لإخراجه، هواؤه بارد جدا، بابٌ حديدي مصفح وثقيل يعمل بالكهرباء...
هذه زنزانتي التي عشت بداخلها تسع وعشرون يوما، بعينين تتأملان إحدى هذه الجدران، الذاكرة تخترق المكان لتصبح بين من أرادت بشطحات الخيال، عاد بي التفكير إلى ليلة الاعتقال، ماذا حدث؟
كان السرير دافئا في ليلةٍ باردة ألتحف غطائي جيدا، أسمع زخات المطر تتعالى ضرباتها، اندمج صوت المطر فجأة بصوت خطواتٍ تقترب من نافذة الغرفة، كلماتٌ بالعبرية، أضواءٌ تخترق النافذة، دقات قلبي علا صوتها، حُوصر المنزل وكادوا أن يخلعوا الباب ببساطيرهم، ازداد الفراش دفئًا كأنه يقول وداعا، ردت عليهم أمي: "شو في؟ انتظر حتى أضع المنديل على رأسي".
فتحت الباب قائلة: "ايش في صرعتونا شو بدكوا!!!".
- أنا الضابط شوقي، أين أحمد؟
-أمي: انتظر حتى أوقظه من نومه..
لكنه لم ينتظر... اقتحم الجنود المنزل خلفها وصولا إلى غرفتي قالت أمي: "قوم يا ابني الجيش على الباب بدهم إياك".
ما زلتُ محتضناً فراشي الدافئ ، قاموا بتفتيشي وعاثوا بالمنزل خرابا، لم أستطع أن أبدل ملابسي قاموا بسحبي خارجا والأمطار تتساقط وأنا لا أرتدي سوى ملابس خفيفة، جسدي يرتعش من برودة الجو، قام الجندي بسحبي وتفتيشي مرة أخرى قيد يديّ للخلف، ضغط عليهما كثيرا حتى أحسست أن أحد الشرايين قد ينفجر، أغمضَ عينيّ وصعدنا إلى الجيب العسكري.
لم أعرف الى أين، لم أسمع إلا صوت محرك الجيب، كنت قد أحسست بالطرقات التي أعرف حفرها ومزالقها جيدا، فهي كانت تدلني أين نحن الآن!! افترقنا إلى طرق المعسكر، كأن هواء المنطقة قد تعكر بقذارة وحقد بني صهيون، في المعسكر اقتادني جنديان وأنا مقيد اليدين ومعصب العينين إلى غرفة داخل المعسكر..
رموني أرضا دون فراش ودون أن يفكوا قيدي، كنت حينها ما زلت تحت وقع الصدمة، لم أمنح نفسي وقتا للتفكير بما يجري، أي شيء هذا! ما الذي حصل؟ أهو حلم أم حقيقة؟
كنت مرهقا جدا، أغمضت عينيّ ونمت في سبات طويل لكن الجندي الذي يحرسني لم يعجبه نومي، فكان بين كل لحظة وأخرى يصدر صوتا ليزعجني، فأستيقظ وأعود الى النوم مجددا بعدها، نمت طويلا حتى الواحدة ظهرا. تساءلت لما أنا هنا وكيف وصلوا لي، رجعت في مخيلتي لتسلسل الأحداث بهدوء، لعلي أقف على أخطاء استطاعوا من خلالها الوصول الى طرف خيط، أي خيط عمّ تتحدث! أنا لم أفعل شيئا، لكنني الآن داخل الزنزانة، والمحققون يريدون أن أحاصر نفسي فكريا، ويرغبون بإرهاقي نفسيا، لأصل بالنتيجة إلى مرحلة عدم التركيز والضعف النفسي ليقتحموا دائرتي المحرمة.
من حينها أخذت عهدا على نفسي أن لا أفكر في شيء سوى الخلاص والخروج بأقل الضرر،تذكرت حينها آية ذكرني بها أحد الأصدقاء عندما يضيق الحال: "اللهم اجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا"، كررتها مرارا وتكرارا دون كلل أو ملل أحسست بأن طاقةً إيجابية قد احتوتني وشعرت أني أقوى من كل ما يجري.
في الساعة الثالثة عصرا اقتحم الغرفة ما يسمى "الشاباص" وحدة عسكرية لنقل الأسرى، قال: "أنت أحمد.. نعم.. يلا قوم بدنا نفتشك، لأول مرة أشعر بهذا الانكسار، أنا كما ولدتني أمي أمام خمسة من الجنود، تذكرت أن أبي قد وقف يوما ما مثل هذا الموقف وأخوتي وجميع من بداخل السجن، أحسست بانكسار أكبر، ارتديت ملابسي سريعا، وبدأت أردد اللهم اجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا لأعيد بعضا من الانكسار للعزة والشموخ، انطلقنا بما يسمى "البوسطة " وهي سيارة معدة خصيصا لنقل الأسرى.
لست أدري إلى أين، وعلى أية حال فأنا لست في طريقي لنزهة أو للبيت، تعجبت جدا من البوسطة، فمنظرها الخارجي يوحي بأنك ستدخل الى أفخم أنواع السيارات، لكني تفاجأت عندما رأيت كرسي الحديد المشبك، الذي يكاد يخترق الجسم، وتفاجأت من سرعة السيارة خاصة على المنعطفات والمطبات كادت معدتي أن تتقطع، نظرت من شباك البوسطة الصغير الذي يعلوها، تعجبت من جمال بلادي المحتلة، وكيف سلبوا أرضنا وهجّروا شعبنا. وبلمحة سريعة رأيت قبة الصخرة المشرفة، دق قلبي فرحا، أنا في القدس! ياااه سنوات طويلة لم أرى قبة الصخرة المشرفة ولم أشتم رائحة القدس، أنا في رحلة أم ذاهب الى غيابات الجب، ولم أجعل تفكيري السحيق ينغص علي فرحتي، لقد رأيت قبة الصخرة!
توقفت السيارة فجأة الأصوات جميعها بالعبرية، أدركت أننا قد وصلنا مركز التحقيق، دخلنا الأبواب الثقيلة المقفلة واحدا تلو الآخر كأنني أدخل نفقاً تحت الارض، رائحة كريهة، وهواء رطب محمل برائحة طعام، دخلنا ممرات عدة وأنا معصّب العينين كأنها متاهة، الجندي ممسكا الكلبشات في يدي، مرة يسرع ومرة يبطئ لأتعثر به أحيانا، كان باب الزنزانة مفتوحا ينتظرني، دخلت الزنزانة رقم واحد، بدلت ملابسي بلباس السجن البني الداكن، لم أتخيل أن شكل الزنزانة بهذا الشكل، كم وصفوها لي وكم قرأت عنها لم أستطع أن أتخيلها بهذه الصورة من القذارة.
تذكرت أهلي ماذا يفعلون، أمي أبي وأخوتي! وأني لو كنت بالخارج ماذا كنت سأفعل بهذه اللحظة، سمعت حشرجة في صدري ضاقت علي زنزانتي أكثر وأكثر تعاهدت في نفسي أن لا أفكر في شيء خارج هذه الزنزانة لأخرج من هنا في أسرع وقت ممكن.
يفتح السجان نافذة الباب، أحمد.. نعم، يغلق النافذة ويفتح الباب ، يلا تعال المحقق بدو ياك،من جديد، أغمض عينَيّ، وكلبش يدَيّ، اقتادني إلى غرفة التحقيق، جلست على الكرسي الحديدي ظهره شديد الانحناء، يداي للخلف، مكلبشات بظهر الكرسي، ظهري منحنٍ كالقوس، أزال العصبة عن عينيّ ضابط يهودي أشقر طويل، ذو عينين خضراوان أصلع، وجهه يملئه النمش، ضحكته صفراء، يدعى ميرون...
يتبع....