كنت في إحدى حافلات نقل الأسرى "البوسطة" متوجها نحو سجن يعتبر استراحة للأسرى المنقولين بين السجون، يسمى "معبر الرملة"، دخل علينا أسير شديد بياض الشعر، لم يعرفه منا أحد، وكانت خطاه ثقيلة، ويرتدي نظارة سميكة مستقرة فوق عينين غائرتين في وجهٍ حنطي شقت الأخاديد فيه طريقها.
آثار السجن تدل عليه وعلامات التعب بادية في ملامحه، دخل على مهله وجلس بجانبي بهدوء وصمت، بعد دقائق من انطلاقنا سألته: نتعرف عليك
-قال كريم يونس
-قلت: أقدم أسير في سجون الاحتلال؟
-قال: نعم..
-قلت: الله يفرج عنك، إلى أين وجهتك؟
-قال: نقل مؤقت من سجن "هداريم" إلى سجن "نفحة"
كان صوته خافتاً وكلامه بطيئاً.. كنت أود أن أواصل حديثي معه مستجيباً لغريزتي الصحفية، ولكن في النهاية قررت أن لا أطيل الحديث معه، فالقدامى عموماً يفضلون الصمت ويؤثرون السكوت ولا يحبون الثرثرة وكثرة الكلام، لعلهم وبسبب تعاقب السنوات والعقود فقدوا الثقة بالكلمات وملوا المفردات..
بعد لحظات من انطلاق حافلة "البوسطة" وقف يونس على قدميه المقيدتين وأمسك بقضبان حديد النافذة بيديه المكبلتين، وأخذ ينظر إلى الشوارع والناس..
-قال معلقا: هذه الفرصة لا تتكرر إلا كل بضعة سنوات، أحرص على استغلال كل ثانية منها، فنحن نادراً ما نخرج في "البوسطة" إلا عند العلاج والنقل من سجن إلى آخر..
وقف الرجل كطفل صغير ينظر من حافلة روضته ليكتشف العالم الجديد من حوله، ينظر إلى السيارات.. العمارات.. الأشجار.. الناس.. السهول.. الجبال.. بين الفترة والأخرى كان يونس يفرك عينيه ويمسح نظارته بقميص "الشاباص"، لعل عينيه لم تعتد على مثل هذه المشاهد الجديدة، ودماغه يأخذ وقتا كافيا لاستيعابها وحل شيفرتها ورموزها وطلاسمها.
طوال الطريق كنت أنظر إليه نظرة إشفاق وحزن، كان بنظري رجلًا نساه السياسيون وتجاوز عنه المفاوضون، قلت في نفسي هذا الرجل لم يركب سيارة منذ 34 عاما، هو لا يعرف إلا سيارات موديل 83، منذ 34 عاما لم تلامس يديه حاسوب أو جهاز جوال، هو يسمع بالواتس أب واليوتيوب والفيس بوك والبريد الالكتروني، ولكن لا يعرف كيف تستخدم هذه الأشياء..
هذا الرجل استبشر خيراً بأوسلو ظناً منه أنها عجل إنقاذ سيمسك به ويخرج من بحر السجن متلاطم الأمواج، ولكن قبطان السفينة لم يلتفت إليه! هذا الرجل قفزت عنه عدة صفقات تبادل دون أن تشمل اسمه!
هذا الرجل عاصر ستة رؤوساء أمريكان: ريجن، بوش الاب، بل كلنتون، بوش الابن، أوباما.. واليوم قدر له أن يلحق بترامب.. وبعملية حسابية بسيطة نجد أن هذا الرجل أمضى (12.410 يوما في الأسر)، في كل يوم كان يُعد 3 مرات هذا يعني أن مصلحة سجون الاحتلال عدته (37.230 مرة)..
كم من أقاربه وأصحابه وجيرانه توفوا وهو بين جدران أربع؟ هو بالتأكيد لم يعد يتذكر أسمائهم..
كم أسير ودع قبل تحررهم وتركه خلفهم.. كم مرة تخيل نفسه مكانهم؟؟
كريم يونس قد أختلف معه سياسياً وفكرياً ولكن اتفق معه إنسانيا، فهو في النهاية بشر من لحم ودم.. له بقايا آمال، هو لا يطلب المستحيل! يتمنى لحظة الحرية والخروج للحياة، فمتى يا ترى يقذف حوت السجن يونس لشاطئ الحرية؟؟