إنّ عملية اغتيال الطيار التونسي أمام منزله في مدينة صفاقس التونسية، كشفت قمة الجبل الذي يخفي تحت ركامه الكثير من الخفايا. لقد رفدت الأمّة العربية الكثير من المتطوعين للوقوف جنباً إلى جنب مع الثورة الفلسطينية، فكان المصريّ والليبيّ والجزائريّ والعراقيّ، وقد تنوع عطاء هؤلاء المتطوعين، فمنهم من دخل الأراضي المحتلة واشتبك مع قوات الإحتلال في مواقع كثيرة، ومنهم من انضم مبكراً للثورة الفلسطينية وانتقل معها من ساحة إلى ساحة، قدّم وقته وماله وروحه فداء لفلسطين، في وقت شعر فيه المواطن العربي بخذلان الأنظمة العربية وخاصة بعد هزيمة عام 1967م التي خسر فيها العرب أضعاف ما خسروه عام 1948م في ستة أيام، على الرغم من الإعلان عن الحشد والاستعداد والخطاب القوميّ والعروبيّ.
إنّ ما يميز حالة الشهيد الطيار محمد الزواري التونسيّ يختلف كثيراً عن غالبية من تطوعوا إلى جانب القضية الفلسطينية، ففي الوقت الذي انضم فيه هذا المتطوع الطيار، كانت قد هدأت جبهات القتال التقليدية مع الاحتلال، وخاصة الجبهة الإعلامية التي خاضها النظام العربي الرسمي، بل إنّ هذا النظام قد سلك طريقاً نحو التطبيع مع الاحتلال أملاً بحماية الأنظمة من غضبة شعوبها من جهة، ومن هوس الخطر الإيراني من جهة أخرى، كما إنّ الجبهة الفلسطينية الرسمية الممثلة في منظمة التحرير وعلى رأسها حركة فتح، التي كانت في يومٍ ما جاذبة رئيسة وحاضنة مهمة لكل من رغبت نفسه بالانضمام للثورة الفلسطينية؛ تهيء له أسباب المشاركة والنضال، قد هدأت كذلك جبهتها وتغيرت عقيدتها وخطابها، حيث عقدت اتفاقيات أمام أعين العالم أجمع وأعطت رسالة أنّ الطريق نحو القدس هو طاولة المفاوضات وكفى الله المتطوعين القتال.
أمّا من الناحية الإقليمية فلم يعد الإهتمام منصباً نحو القضية الفلسطينية، فالشعوب والأنظمة منشغلين كلّ في همّه، وأصبحت بعض الساحات العربية حمّامات دماء، وأزهقت مئات الآلاف من أرواح أبناء العروبة وشُرّد الملايين منهم، وتدخلت قوى خارجية تعبث بأرض العرب وتغير من ديموغرافيّتها وجغرافيّتها، فمن سيلتفت إلى قبلة المشرقين بعد ذلك.
من هنا تأتي أهمية الكشف عن مشاركة هذا المتطوع العربيّ وبصورة نوعيّة لم يسبقه إليها أحد، وليرسل في ذلك عدّة رسائل، أولها أنّ جبهة غزة التي ما زالت مفتوحة والتي خاض فيه الفلسطينيون ثلاث منازلات، ألهبت مشاعر العرب والمسلمين، فكانت عوضاً عن الجبهات التي تمّ إطفاء أوارها خارج الحدود، وأنها ما دامت مفتوحة فستبقى روح الكثيرين من أبناء الأمة معلّقة فيها، يرفدونها بالمال والعون المقدور عليه ما استطاعوا.
كما أنّ الزواري باستشهاده أرسل رسالة لكلّ عربيّ ذي قدرة وكفاءة، قادر على مساندة القضية الفلسطينية قضيّة الأمّة، فالباب مفتوح، وهذا ما أكّد عليه الكثيرون من المحللين العرب وغيرهم، بأن خطورة الكشف عن استشهاد الزواري والهالة الإعلامية التي صحبتها، وما صحبها من نشوة عربيّة عن الإقتدار من توظيف مساهمة هذا الطيار في يوميات المقاومة في الحرب الأخيرة على قطاع غزة عام 2014م، والذي لم يشاهده العرب فقط بل شاهده العالم أجمع، قد يحث الكثيرين من أصحاب العقول والإبداعات المدفونين في دولهم للسعي لما أرشدهم إليه هذا الطيار الشهيد، ومن هنا فإن تغييب محمد الزواري الطيار الشهيد قد فتح حساباً جديداً وأفقاً قد يكون له أول ولكن لا يعرف أحدٌ إلى أين منتهاه.