فلسطين المحتلة - قدس الإخبارية: في طريق عودتي للمنزل بعد دوام انهكني من التعب ،،، في أول سيارة عمومية تقف أمامي ألقي بجسدي الهزيل على كرس خيل إلي أنه صنع من الريش، ولكي لا أضيع دقائق الطريق، التقطت دفترا صغيرا من جيبي لأسجل ما علي أن أقوم به حين عودتي إلى غرفتي، فكتب الملاحظة الأولى ومررت بالثانية إلا أن الكلمات تجمدت ولم أستطع كتابة الثالثه، هواء عليل انساب إلى جسدي المرهق وسرق مني أوجاعي.
ولكن ماذا!!! هناك نسيم غائب بين تلك النسائم التي تسربلت في شراييني .. سرحت لأبحث عن النسيم الضائع بين ترامي السهول واحتضان الجبال الذي انتظرته منذ ثلاث أيام وإذا عيني تقع على منطقة سرقت منها شجرتها الخضراء .. عدتُ بذاكرتي لشجرة تتراقص أوراقها مع نسائم الخريف وحبيبات المطر.. عندما وقفت تحتها لألتقط آخر صورة لي قبل مغادرتي لبحيرة طبريا. ماذا بحيرة طبريا !! وتلك المأساة
أسدلت رأسي قليلا إلى الوراء ليمر أمامي شريط ذكرياتي من جديد، فنحن لسنا بعالم المعجزات والعصا السحرية التي ترمي بنا إلى طبريا دون المرور بحاجز نعلين، لا أعرف طبريا لكني رميت جسدي أمام مجندة تمتلك العصا السحرية.. لأول مرة ولربما الأخيرة التي اصطحبت أختي في رحله كهذه ..ليس كرها بها ولكن حبا وشوقا بموطئنا الأول.
في داخلنا مشاعر مختلطة من الفرح والحزن لزيارة بحيرة طبريا ومدنها لأول مرة... حتى بدأ استعدادنا كموجة إعصار تهب بسرعة حتى تصل إلى المكان.. ولكن الوقت خذلنا وبازدياد سرعتنا جعلتني أخترق الحاجز بكمشة غبار دخلت بعينين المجنده.. لم تمض ثواني على دخول الحاجز إلا أن الهدوء ساد وكأن العاصفة ستبدأ من جديد.
ساعة ونصف في غرفة التحقيق كنت كأم قلقة على ابنتها، لا تعرف ماذا تفعل، فـرا المارين من أمامي كصعقة تيار كهربائي جاءت كلمح البصر، أصرخ بأعلى صوت، أنادي باسمها .. أه كم تمنيت لو أنني اجيد العبرية لأتحدث مع أحد من الجرذان التي تقف هناك .. تترقب ذهابي من بعيد، تشبث بعمود حديدي وجدته أمامي .. فلا استطيع الذهاب واترك خلفي وجهٌ تغيرت ملامحه بسبب حبة دواء أودت بي إلى اخر مقعد من مدرج الباص، لا عودة ولا فرحة بعد تلك الدقيقة .
آمنتُ بأن لا مفر وأن يومي معطل من أول محطة، كيف أغدو وأترك خلفي حقيبة ذهبية خبئت فيها حبة صغيرة بلونها الأصفر بين ثناياها، ربع ساعة أو أقل لا أتذكر بل إنما سمعت رنات هاتفي الخرافي الصغير، حقاً أختي تتصل ربما عادت إلى البيت، بعد غرفة التحقيق القذرة،،،
ألو ... وينك شو صار معك سجى أنا هيني مريت عن الحاجز وين انتو يييي إحنا مشينا
قلتها بصوت خائف ومتردد وكأني اقترفت جريمة "ضحى مرت عن الحاجز"، وسائق المركبة بسوالفه وشاربه الأشعث ربما اتحد مع عقليته الخبيثة ليعبث بمسجله البالي ويرفع صوته على ترانيم اشبة بـ"سنسكريتية"، خبيث وكذاب ومخادع كلها تتجسد بحشرة تتطفل على زهرة نبتت في أرضي، ولحظة اخترقت عقله، ليجعل نفسه السيد وأنا العبد أفعل ما أؤمر به واعترف بأني لست أنا لمجرد صورة بالية عاث عليها حبرُ الورق وغبار الزمان.
حبيبات الطحين والبنّ والتمر
أنا وذاكرتي المتينة نجلس في إحدى زوايا غرفتي، وحبيبات المطر تطرق الشباك، هنا استيقظت من غفلة وأعادت شريط ذاكرتي عشر سنوات للوراء، عندما أمسكت هاتف والدتي وضغطت على كبسة خضراء، لتفاجئ بنبرة صوت متضعضع، خافت يخبرني بـ وفات خالتي التي لم أرها قط ،،، لكن هذه الحظات لم تبق مجرد خيالات في ذاكرتي للحظة واحد، ليخيم الصمت في بيتنا من جديد ويبقى وحده صوت المتكلم وأمي.
"لا حول ولا قوة إلا بالله"... الله يرحمك يا خالي
غرفة المطبخ أصبحت مكان لتصادم الأخبار المحزنة، للمرة الثانية على التوالي، أصبح لا طعم لحبيبات الطحين "المفتول" تخالطه كلها برائحة البّن والتمر الذي لم نتذوقه إلا في العزاء، أقول وداعاً لحبيبات المفتول التي أصبحت تحمل معنا الوداع والمنفى.
ساعة إلا ربع ... تقودني و أنا أقودها
منذ ثلاثة سنوات وفي كل صباح، استيقظ بتنبيه هاتفي المزعج من حلم زاهي على واقع مرّ، أتناول فطوري وأشرب كأسا من الشاي، أرتدي معطفي وحذائي، وتُمتم بكلمات بلائحة معلقة على حائط البيت مقابل باب المنزل، انتظر السيارة التي لطالما حلم بأن تأتي في موعدها،،،
أنتظر ثم انتظر خمس دقائق وأيام أكثر من ربع ساعة، أسبُ وأشتم على سوء الالتزام في الوقت حتى في بعض الأحيان كنت أتمنى لو أني أمتلك أداة لتدير الوقت للخلف حتى أصل جامعتى في الوقت المناسب، لا فائدة من الكلام، وفي نهاية المطاف تصل السيارة أوشكت على الهبوط، من كثرت الركاب.
أحدق في عيني السائق، وأطرح سؤالي الذي كرهت أين سأجلس!!، لتجيب عينه وهو يوجه نظره على تلك القطعة البلاستيكية التي تسمى "ترابيزة"، لا مكان فارغ سوى هذا القطعة التي سنتقاسمها أنا وراكب آخر طوال حوالي الساعة مسافة الطريق.
سوء الانتظار، وازدحام مفترق عطارا، وسيارة غير قانونية، أغنيات أليسا، لا شيء يعجبني، والسائق لا شيء يعجبه،، لكني مجبورة على الصمود فلا طريق أمامي سوى الانتظار، أنا للطريق فهناك من سبقت خطاه خطاي، كثير من نثر الكلام على الطريق لا جواب ولا مستجيب فهل سيكون من الممكن استعادة حريتي على أول مفترق في الطريق؟؟.