قررت أن أكتب هذه الليلة، جمعت أوراقي البيضاء المبعثرة في أركان الغرفة الباردة، أوراقي التي بعثرتها حينما كنت أكتب نصف نص لم يكتمل بعد وأُركِنَ على ناصية الأيام، يقاتل من أجل البقاء، من أجل الحياة، من أجل أن يخرج الى النور، ولكنه قتل قبل أن يولد، قتلته وهجرت قلمي.
تكاثف الغبار على المنضدة، وجف المداد في القلم، أما الأوراق فتطايرت في الفراغ وسقطت كأوراق شجرة زيتون في أرض جدي أطاح بها المرض في فصل الخريف بعد أن أهملت وطواها النسيان لتصبح صفحة في فصل الأحداث من كتاب الزمان.
فعلت ما فعلته بنصوصي المدمرة في الحرب الكينونية في جوفي، وجلست أحاسب نفسي، لماذا أكتب، ولمن سأكتب، ومن أنا في هذا الزمان الموغل في السقوط، كثرت سقطاتنا، كنا أمة اقرا وأصبحنا أمة اكتب دون أن تقرأ.
ولكن حيفا نطقت، وصرخت أغيثوني، طرقت صرخاتها مسامعي، وأتاني ذلك الصوت القادم من الأعماق ليطرق بوابة مخيلتي لأكتب، يطلب مني أن أرسم الموقف، أن أخيط الحكايا من عبق التاريخ وآهات الارواح التي مازالت تسكن المكان، المكان الذي هجرته الأجساد تحت وقع ضربات العصابات الصهيونية واختفت تحت الركام ولم نعد نراها فنسيناها أيضا.
سأكتب هذه الليلة لحيفا، حيفا التاريخ والحضارة، الارض والحجر والشجر، حيفا الانسان ونصف الطريق الى الامل بالعودة، حيفا التي احترقت مرتين ولم نكترث بعد، حيفا ازهار الطفولة وذكريات المارقين من بين طرقات الساكنين، حيفا التي مازالت تسكن في مكانها الى جانب البحر تسر له كم اوجعها ظلم الاقرباء، وطول الغياب وما فعله الغرباء
حيفا تحترق منذ ان احتلت، حين سرقها السارقون وعبروا التاريخ قدما يشوهوا العروبة في داخلها، حاولوا ان يسقطوا عنها كل ما هو فلسطيني فقاومت وقاومت وقاومت وبقيت مكانها على العهد والوعد تنتظر، حتى قتلها صوت اقلامهم توقع اوسلو فأصبحت تبكي بصمت، وتجرح دموعها قلوب المخلصين، ولكنها مازالت تنتظر
ولكن هل سأستطيع ان انصف التاريخ بقلمي؟، ان احمي ذكريات الاطفال الذين كانوا ضيوفا على تاريخها فكبروا في كنفها واصبحوا رجالا ورحلوا الى العالم الاخر، ان احرس الارواح التي لم تفارق المدينة منذ ان سقطت بيد الغزاة لتحمي ما تبقى لنا من كرامة،
سأكتب وأقول، حيفا لم تحترق اليوم، حيفا تحترق كل يوم شوقا على فلذات اكبادها، الذين هجروا قسرا من قلبها وسكنوا اصقاع الارض بحثا عن الحياة وهربا من شبح الموت الذي يطاردهم بين ازقة الشوارع التي حفرت في اقدامهم حب اللعب
حيفا اليوم لا تحترق، ولكن الارض اشتاقت لسكانها الاصليين فغضبت وثارت، تريد ان تحرق كل شيء فوقها لتعيد رسمه من جديد، فترسم الشمس وقد اشرقت دون احتلال ولا غزاة، ونظفت ثوبها الابيض من الدم الذي اغرق جنباتها حزنا على من رحلوا وتضع ذكراهم في قلبها، دون انين الارواح التي تسكنها بعد ان رحلت الاجساد،
حيفا لا تحترق، حيفا تغتسل لتتزين كعروس في ليلة زفافها تنتظر عريسها في مخدعها الى جانب البحر، تنتظر من ينفطر قلبها شوقا للقائهم، تتجمل لتصبح ابهى وابهى، تضع في اذنها تلك الكلمات القائلة ان الاحتراق لا يعني الفناء وانما يطهر الغابة ويجدد شبابها فتنبت من جديد كما تريد ان تكون لتستقبل سكانها الاصليين
حيفا لا تحترق، حيفا تنتظرنا، فمتى سنعود؟